Translate

Sunday, November 15, 2015

في ذكرى رحيل #زينب_مهدي

في ذكرى رحيل الناشطة زينب مهدي - رحمها لله-، نعيد نشر هذه القصة القصيرة عنها..بناءا على طلب الأصدقاء. و أدعوكم للدعاء لها بالمغفرة فهذا ما ينفعها الآن.

و قد أثنى على هذه القصة الأستاذ ياسر ثابت واصفا إياها كأن زينب تتحدث عن نفسها و تمنى لو لم تمت، لتجد من يكتب عنها بهذا الصدق. كذلك الأستاذ عبدالكريم صاحب مدونة شمس العصاري وجد القصة من أروع ما كتب عن زينب حيث كتبت بإحساس عالي و إنسانية استحقت النشر. و كان ممن عمل معها قبل وفاتها بفترة.
تحديث سبتمبر 2023
#WorldSuicidePreventionDay #WorldSuicidePreventionDay2023 #SuicidePrevention
يسمح بالنشر مع ذكر المصدر 

قصاصات من أوراق الآنسة (زينب)
(أوراق مصرية منتحرة)
كتبت د/إيمان الطحاوي
و كيف تقوى قلبك على فتح ملف فتاة منتحرة؟ هكذا تحدثت لنفسي و أنا أغوص في هذا الشجن، قبل أن يقولها غيري سيقرؤون هذه الأوراق. لكنهم سيسمحون لأنفسهم بقراءتها بدافع إنساني كما سمحت لنفسي بالكتابة عنها بدافع إنساني. هذه ليست قصة فردية عن شخص بعينه، إنما مزيج بين الألم و الأمل عن جيل بأكمله.
دعونا نبدأ مع كلام زينب مهدي: حتى أيامي الأخيرة لم أكن أدرك أني على صلة قريبة بهذا الهاجس الذي نفر منه جميعا..الحقيقة الوحيدة التي نعرفها و نتجاهلها (الموت)...تعرفت إلى الموت عدة مرات، فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي أواجهه..عرفته كثيرا، و كان كل فراق بمرارة مختلفة...لكني بالنهاية تعودت عليه مثلكم جميعا..و من منا لا يعرف الموت؟ في البدء، تعرفت عليه في موت بعض أقاربي (قد لا يهم اسمهم الآن..فأنتم لن تتذكروهم كما ستنسونني) في عقدي الأول...لكنه –الموت- صار ملازما لي في سنواتي الأخيرة حتى صار رفيقا على غير إذن مني..بدأت هذه الصداقة العجيبة مذ انطلقت الرصاصة الأولى في جسد أول متظاهر مصري في السويس في مطلع العام 2011...و حينها، كنت على بعد عشرات الكيلومترات من هذا الموت ثم على بعد لحظات من عربة الأمن التي تقتلنا في ميدان آخر لأنجو من هذا الموت. كل مرة يرافقني و يذيقني مرارة ثم يخبو لشهور و يعود ثانية..في البدء، كنت اتفاجأ به، لكنني تعلمت كيف أتوقعه..و في النهاية قررت أنا أن أداهمه و انتحرت..هذه قصتي باختصار مع الحياة أو مع الموت..مع حياتكم و مع موتي المفاجيء لكم..أو هكذا تجملتم حين سمعتم خبر رحيلي (المفاجيء)!. 

(زينب): كان وقع حياني يتبدل بوتيرة كالنار التي تشوي سمكة تتلظى..هكذا كنت أشعر في السنوات الأخيرة..تشبيه مضحك، أليس كذلك؟ هل تخيلتم انفسكم تتقلبون على نار و أنتم أحياء تتوقون إلى الحياة و أنتم تعرفون أن الموت يحيط بكم على بعد دقائق؟ هل ستفكرون في الاستسلام كالسمكة في لحظاتها الأخيرة؟ هكذا فعلت أنا...حتى في أقصى لحظات تفاؤلي بحياة وردية عادلة، كنتنت أتلقى الصدمات التي تقلب الموازين مرة بعد أخرى و انخدع بكل رمز للعدل و للنظام و للتضحية..حتى تيقنت أو هكذا اعتقدت أنه لا حياة فاضلة على هذه الدنيا و أنها أنسب لي هناك في حياة أخرى و لا سبيل لها إلا عبر الموت...فاستسلمت كسمكة على نار شواء..هذا كل ما حدث.
قالوا ضعيفة..و قالوا يائسة من الحياة. لا أعلم، لكن ما أعرفه فقط أنني كنت متفائلة و صادقة مع غيري..ثم فوجئت بالظلم، و بالكذب. لم أحب أن أرى نفسي ضحية لظالم فقاومت مرات و طرقت عدة أبواب، حتى فشلت (استنفذت). ألهذا قالوا ضعيفة؟ كنت أساعد غيري رغم أني الاكثر احتياجا لمساعدة من تخلوا عني، لم أتحمل، بحثت بمفردي عن عمل لأرضي ذاتي و أساعد في تنشئة جيل من النساء القادرات على صنع مجتمع قوي و فاضل. راسلت و بعثت سيرتي الذاتية قبل الرحيل بشهور..لم يستجب أحد، فكانت كورقة نعيي الأخيرة بيد كل من وصلت إليه و لم يفعل شيئا. ترى كم شخصا عرف أنني في ضائقة، و حاول مساعدتي بكرامة؟ ربما تعرفون عددهم الآن و تعرفون من يجلدون أنفسهم متمنيين ما لن يحدث، أن تعود عقارب الساعة للوراء! حملت الكثير وحدي و كان هذا فوق طاقتي، تخيلت انني بالمشاركة في نشاطات خيرية سأساعد في تغيير للأفضل، و سأمر بنجاح تلو نجاح. لكنني صدمت بفشل تلو آخر و كأنني ( دون كيشوت) جديد..لكنه جاء بعد الخامس و العشرين من يناير. كنت (دون كيشوت) الضعيف أحارب غولا اسمه القضاء حيث يتحكم في مصير الأبرياء قاض ظالم كأنه نصف إله. كنت –بما أملك- ضعيفة بالنسبة له طبعا..و كنا جميعا نحارب الطواحين، كل بطريقته، نحاول جميعا عبثا مرة تلو الأخرى..لكنني انفردت بأخذ نصيبي الأكبر من المحاولات و الفشل في وقت قصير.. لهذا استهلكت أسرع منكم؟ و كنت وحدي على أرض غير ثابتة، اتنقل مرغمة بين النقضاء..ديني و ليبرالي، باحثة عن المعرفة و عن الحقيقة، فما هداني أحد. قرأت كثيرا و تعرفت على منابع جديدة كنت أجهلها لسنوات..كانت كلماتي و صوري عبر وسائل التواصل تشي لهم بهذه التنقلات، فوصموني بالكفر و فروا مني إلا من رحم ربي. . تذكروني حين احتاجوا خدمة في حديث عابر بينهم و لولاه لما تذكروني..كثر خيرهم..هل كل هذه المحاولات و تقولون ضعيفة؟ إن سلمت بضعفي بعد كل هذا، فسأقول: "نعم ضعيفة، لكنكم لستم أقوياء".

لحظات قبل الانتحار....قد تكون هذه اللحظات هي أقوى ما مررت به في حياتي، حين قررت الرحيل، و حين قاومت الموت..هناك ما يدفعني لان أسرع في مغادرة الحياة بأقل من ساعة..هاجس الموت يناديني من أيام، آه لو كنت مت دون انتحار، هل كانوا سيتذكرونني؟ لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أحاول فيها الانتحار و كنت جادة في عزمي هذه المرة...كنت أفكر في أمي حين تعود و ترتاع لهذا المشهد..سامحيني...و حين كنت أقاوم هذه الرغبة، شعرت بشيء يعتصرني كيد تلتف حول عنقي، كضربة في قلبي الذي يحمل كل ثقلي ثم صارت كل سنواتي أمام عيني و أنا اتألم و أحاول....لكنها الحياة التي نحن إليها أبحث في شريط حياتي عن شيء حلو يريحني، ثم تتسارع الصور فأرى مراراة السنة الماضية و لا أذكر إلا غايتي الأخيرة الآن وهي أن ألف هذا الحبل حول عنقي.....، ثم عادت أمي و رأتني ميتة.. أو هكذا جاء في تحقيق النيابة و قصاصات صفحات الأخبار.
بالنهاية، انتهت (زينب) كجثة تحت تصرف النيابة حتى يأذن الطبيب الشرعي، ليمهر قصاصة ورق بكلمة (انتحار) قبل أن ينتقل اسمها إلى آخر قصاصة (تصريح الدفن)..و لينتقل الجسد إلى مدافن العائلة، و الروح إلى خالقها..

الآن، يسير وراء كفني العشرات من الأوفياء، في نفس الوقت الذي يكتب الالاف عني عبر الانترنت..و يظل هناك مئات ممن عرفوني و لم يودعوني الوداع الأخير لا في جنازتي و لا عند قبري. شكرا لهم جميعا على أية حال.

(زينب): أنا ربيبة "الجماعة"، تبعتها في سن الزهور بحثا عن المدينة الفاضلة بإرادتي..و تركتها و أنا أتوسم في غيرها الفضل بإرادتي. لم أجد فيها طريقا لإرضاء طموحي كما يريد عقلي (أنا). أحببت الزهروات و أنا أحفظهن في المساجد، ثم أردت أن أكبر معهن بعقلنا، و هذا ليس من حق الصغار و لا من حق النساء في " الجماعة"... حاولت الوصول لهم بأفكاري لنتغير معا، لكنهم اعتبروني مقلقة و هذا القلق لا يتسق مع نهج الجماعة الثابت لعشرات السنين..اخترت أن أدعم من خرج عن هذا النهج قليلا ليترشح للرئاسة، فكان جزاؤنا الفصل لأننا استخدمنا حقنا في التفكير خارج صفهم،.. يعتبروني كائنا ينفذ ما يملى عليه و لا يهتمون بافكاري لأنني لن أؤثر في المجتمع و كأنني موطنة من الدرجة الثانية. يكيلون بمكيالين حين يتعامولن مع المراة و الرجل. و حين يتعامملون مع من يطيع دون تفكير و من يناقش قبل أن ينفذ الأوامر. إنني أحب أن أشير لها باختصار غير راغبة حتى في أي اسم أو ضمير مجهول يختصرعلاقتي بهم و التي استمرت لسنوات ثم انهارت في شهور.

تركوها و كأنهم موكولون بابنائهم الذي يوالونهم فقط. أما من يخرج عن طريقهمم، فهم منه براء يفرون منه؛ لأنه في نظرهم خبث فكيف يترحمون عليه أو يبكونه؟. بعض زملائها القدامى حذفوا ما استشهدوا به من كلماتها عن (رابعة) و عن ظلم العسكر بعد الانقلاب و عن حزنها على أحد شهداء الجماعة ممن تعرفه و شاركها فعل الخير حين توعدت بأخذ حقه ممن قام بتصفيته.. لكن القصاصات التي سجلها السيد "جوجل" كانت تشهد لها و ستشهد عليهم أمام الله يوم الحساب). فلنحرق هذه القصاصات عن العلاقة الشائكة مع "الجماعة" إذن، فالآنسة (زينب) لا تحب الإشارة إلى "الماضي".

لست وحيدة، فأصدقائي من الإسلاميين و الليبراليين و من نشطاء فعل الخير كثر...كانوا كثيرا، فما نفعني أحد..ألم يكن أفضل لي و يكفيني صديقة أو اثنتين؟ لم يصدقوني القول حين ترددت و تساءلت، هذا في وقت الضيق..هربوا مني واحدا بعد الآخر إلا القليل..لهذا قررت أن أهرب أنا من عالمهم و من إعلامهم الإلكتروني الزائف..ثم تمر الأيام، فأعود لأدخل عالم (فيسبوك) الكبير. أراه مليئا بالصراعات و التخوينات بينما القتلى يتساقطون و المعتقلون يتزايدون كل يوم..كلهم يتصارعون فلِمَ علي أن أنحاز لأحدهم؟ أنا أخص ذاتي التي لم أجدها في أي منهم. الأصدقاء الجدد الليبراليون اجتذبوني و سعدت بصحبتهم و حياتهم، ثم تركوني حين قلت لا للظلم ضد الأخوان...يستوون في نظري مع الأخوانيات اللائي تركوني و اعتبروني كافرة لما خلعت الحجاب و كتبت عن عدم اقتناعي بما عرفته و درسته لسنوات. الصداقة او الأخوة بالنسبة لكليهما شكل ظاهري كالحلوى، تعجبهم و تجذبهم كالذباب ثم يتركونها ليبحثوا عن غيرها. أنا قطعة حلوى اسمي (زينب) و في بعض الساعات (زعببة) ولا أحد يملكني. ثم صرت قطعة حلوى ضاعت ويبكون عليها. حتى الأخوة الأشقاء صاروا يتعاملون مع بعضهم في هذا الزمن بهذه النفعية المتبادلة. كل شاب أو شابة له حياته المنفصلة ماديا و اجتماعيا غير مكترث ببقية أخوتهم و والديهم حتى لو جمعهم سقف بيت واحد. و يتذكرون أخوتهم حين يفقدون أحدهم ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى عالمهم و هكذا هي الحياة.

أما عن أسرتي، فأنا لا أملك الحق في الحديث عنها الآن..يكفيهم حزنهم على رحيلي بهذه الطريقة، تركت لهم رسالة مفادها (سامحوني، هتوحشوني).
تعرف زينب نفسها: (( مصريه .. انتمى للتيار الاسلامي الوسطي .. عضو مؤسس بحزب التيار المصري .. بدعم بشده دكتور عبد المنعم أبو الفتوح مرشح لرئاسة الجمهوريه .. فكر د/ أبو الفتوح يشغل جزء كبير من فكري .. أميل إلي اليسار ..أؤمن بحرية الفكر والعقيدة .. الفكر يناطح بالفكر .. ضد المجلس العسكري .. يسقط يسقط حكم العسكر .. احنا الشعب الخط الاحمر ))

ملف المعتقلات: لم انسحب كما قالوا، بل كانت أنات المظلومين و المعتقلين تناديني، و كنت أحاول أن أفعل لهم شيئا، فاخترت أضعفهم، الفتيات المعتقلات المنسيات، عملت على ملفهن. فتحت لزملاء جدد و قدامى طريقا إلى العمل الجاد لنساعدهم..ثم تركتهم بعد فترة، لماذا انسحبت؟ لأنني وجدت أن ما نفعله كأنه (تحصيل حاصل)، شعرت و كأنه محاولة لإرضاء الضمير، و أحيانا لإرضاء الأنا.. كنا نعرف جيدا أن التوثيق و النشر مآله إلى لا شيء في هذا العالم المنافق.. كل هذا كالنقش على الماء، كحملان ضئيلة يأكلها غول القضاء الظالم.. معلومة هنا و صورة من هنا و ملف (إكسيل)...، و هكذا اكتمل ملف المعتقلات..ثم ماذا؟ أهذا كل ما استطعت تقديمه؟ كان مجهدا و متعبا و مع هذا تتساءل ذاتي قبل أن تجلدني كل يوم: أي نتيجة أو تغيير حدث بعد أن جمعتوا هذه الأوراق؟ لا شيء..هل أنت راض يا ضميري الآن؟ لا... ثم بعدُ، أتسمون هذا انسحابا؟ لقد اخترتها بإرادتي و أنا أعلم الكثيرعن هذا العمل المليء بالأسى، و لم أكن أعلم أن الإحباط سيقودني إلى كل هذا الحزن و تلك النهاية. لم تكن مجرد أسماء و معلومات و أرقام تتراص أفقيا و رأسيا لتكون ملفا، لكنها كانت صورا انفخ فيها فأشاهدها تتحرك أمام عيني و أنا اكتب عنها جملة أو اعرف عنها معلومة جديدة. تقول المعلومة إن هناك فتاة عمرها 18 عاما احتجزت..ابدأ في رؤيتها و محادثتها من وراء عقلي الباطن فأجدها بين أربعة جدران وسط نساء اقترفن آثاما ربما لا تعرف عنها شيئا، لا يضايقها احتجازها بقدر ما يؤلمها مساواتها بمذنبة تتندر عليها و قاتلة تضايقها لتتخذها سخريا تتسلى بها مع بقية نساء العنبر أو الحجز كل ليلة..أشعر بقوتها و ضعفها و هي تحاول أن تدفعهم عن جسدها حين يعتدين عليها بسبب مشاحنة نسوية عادية. و مرات اخرى، أشعر برغبتها في إصلاح سلوكهن بالحسنى حينا و بالزجر حينا. أدرك كيف منعوا عنهن الملابس الثقيلة والأغطية في برد الشتاء لإذلالهن بينما أتدثر في حجرتي بالأغطية. أزيحها عني، فلا أتحمل هذا البرد و أعود لها معتذرة لصديقتي في ملف المعتقلات لأنني لم أتحمل كل هذا البرد في حجرتي و أنا حرة. اتأمل في ملف معتقلة أخرى، فأجدها تمثلت أمامي روحا معذبة تعاني فراق ابنائها و قلقها عليهم كل ساعة من ساعات احتجازها لشهور. كانت تحلم بالخروج لأجلهم فقط، كل ساعة..و الساعات تتكاثر و لم يعد لها حسبان و ليس هناك مخرج لإخلاء سبيلها حتى يأتي يوم تظنه الفرج، فتأخذ حكمها القضائي بسنوات طوال، و حينها يتحول ملفها من معتقلة إلى سجينة لتقضي حكمها ساعة بساعة و لا تزال تنتظر حلا لا أعلمه و لا أملك أن أساعدها بشيء آخر، إلا أن انكمش أكثر في حجرتي و أنا أراها تتعذب مع بقية المعتقلات في الملف..تخيلت حيوات الشهيدات منذ الثالث من يوليو و كيف انتهت بطلقة غدر من قالت لا يبالي كروح أزهقها برصاصه...حينها شعرت بالانكسار و كأن خنجرا يقتلني معهن..قصاصات هنا و هناك كانت عذابا لي و أدعوكم لتشاركوهم حزنهم و عذابهم بعد مماتي. هذا أقل ما نستطيع نحن العاجزون عن المساعدة..أيقنت أن كل كل هذا الجهد يتساقط أمام كلمة قاض قرر حبس فتيات لسنوات و نائب تغافل عن انتهاكات بحقهن...
لكن سقوطها من علٍ لم يأت إلا بعد وعود بتحقيق العدالة للمعتقلات و غيرهن عبر محاكمات دولية و حلول غير عادية..حيث لا أحد في هذا العالم الكبير يهتم بنسوة محتجزات في حجرة باردة مظلمة في دولة اسمها مصر. وما أسقط (زينب) أنها رأت بعضهم يرى حبسهن وقودا يجب ألا ينطفيء لشد انتباه المجتمع المصري و الدولي لما يحدث في مصر..نفعت مرة مع بعض المعتقلات، و آفة حارتنا النسيان مع بقية المعتقلات..لا أحد سيبكي عليهن مثلما بكت و لا أحد سيتقدم بخطوة جادة لأخذ حقوقهن من هذا العالم أو المجتمع الدولي. اعتقدت أن هذه الأبواب التي تطرقها مع رفاقها لن تفتح لهم لينقذوا الفتيات أو أي معتقل في سجون مصر ظلما، و إن استمروا في الطرق لسنوات و إن ارتفع صوتهم لأعلى الدرجات..إنهم يرضون ضميرهم الداخلي..لهذا قررتْ التوقف عن هذا الصراخ و الطرقبدون فائدة. اكتفت بما قدمت في هذا الطريق، و سلكت طريقا آخر ظنته الأوقع. و تركت هذه القصاصات جانبا.لم تفكر (زينب) في ردة فعل أحد تجاه انتحارها..فالكثير أنكرعليها و لو صمتا هذا الإثم..و معظم بنات الإخوان لم يرثينها بكلمة رغم أنها عملت ما بوسعها في متابعة ملفهن. هل كنّ يستحققن جهدها أو رحيلها؟ إنها لم تكن تعمل لهن، بل عملت لأجل ضميرها و هذا مكسب لا يقدره بشر. لم تدرك أن للإنسان الحق في مساعدة غيره لكن ليس للحد الذي يقتل نفسه كمدا و غيره لا يبالي به. و إلا لتحولنا إلى سيزيف جديد.

(زينب): أي درجات من الألم النفسي شعرت به، و أي بارقة أمل لاحت لك في فكرة الموت؛ لتتخلصي من كل هذه الآلام؟ أي ذنب يستحق هذا الانتحار؟ هل أردت أن تكملي حلقة الظلم حول نفسك، فنحرت روحك المعذبة؟ أهكذا تتخلصين من الظلم بظلم آخر (الانتحار)؟ هل روحك (الأمانة التي استودعها إياها ربك) تستحق هذا؟ أنت تعلمين أنك لا تملكين روحك التي وهبها ربك لك...ها أنذا اقترب من المحظور الذي حددته لنفسي في هذه الكتابة.. ربما تجيبني (زينب) و تقول: أعلم، لكنني رغبت في أن أشعرهم بألمي.. لهذا جلعت روحي رسالة لهم؛ ليفيقوا من نفاقهم.. و هل أفاقوا الآن بعد انتحارك؟ أمن أجل رسالة (قد لا تصل) لآذان أغلقت و قلوب قست تقتلين نفسك و تغضبين ربك؟ هل سأضايقك لو قلت لك: إن الرسالة وصلت لكن القليل تغير؟ لقد ركزوا في ماهية حساب الله لك على انتحارك من حيث أنت كافرة أم مسلمة؟ و على أفضل حال ركزوا في أنك مسلمة لكنك مخلدة في جهنم و لهذا لن يحضروا جنازتك..ربما يكون رأيهم صحيحا..لكنهم لم يتطرقوا أبدا لدورهم في هذه المنظومة الظالمة..و لم يتغير محرض أو صامت على الظلم بموتك..مسكينة...
كانوا جميعا و كنت واحدا..و لهذا لم يعد لي جدوى من البقاء في هذا العالم، فليكملوه جميعا بطريقتهم و نفاقهم. لم يعد لحياتي أي هدف لأحيا.
(زينب): إن وحدتك كانت بداية الطريق لوفاتك..قتل الله كل من قادك، و أرغمك عليها.
عزيزتي...لن أضعك في صف القديسين، لمجرد أنهم ظلموك و قادوك إلى الموت البطيء و العزلة ثم الانتحار. لن أمجد فعلتك (الانتحار)..لن أقول أنك شجاعة بهذا اليأس.. لن اتمادى في الدفاع عنك لكنني قلت أن خطأك لن اذكره كثيرا أو على الأقل لن أبرره..خطأك هو ضعفك و يأسك..و هذا أمر يحاسبك عليه الله. إنك كغيرك من الفتيات في عمر الزهور تبحثين عن حياة كريمة بكل عزة نفس..تساعدين غيرك و تأثيرن على نفسك رغم أحوالك المتعثرة. أتكون لحظة الضعف و التفكير بالانتحار هي لحظة مارقة في عمرك جاءت بلا مقدمات؟ فالكثير يمر بما تمرين به...لكنهم لم ينتحروا (فعليا)..بعضهم انتحر بأن انطوى و نسى طموحاته، و بعضهم جارى الواقع الزائف مبدلا قناعاته...و كثير منهم ينتظر مآله غير راغب في الموت و خائف منه و من الإقدام عليه..لا يملك القدرة على الاقتراب من الانتحار و في اللحظة نفسها لا يملك القدرة على أي تغيير في حياته البائسة.. أكل هؤلاء أقوى منك أيتها اليائسة الضعيفة؟ ألم يكن الأفضل لك أن تستمري في هذا الحياة المريرة حتى يحين الوقت لتتغير بعد عام أو عشر أولا تتغير على الإطلاق؟ هل فقدت إيمانك بالبعث و الحياة الأخرى عوضا عن أحزان الحياة الدنيا؟ أكان يجب عليك أن تحاولي مرة بعد أخرى وسط هذا العفن السياسي و الظلم السياسي بدون أية أسلحة تمتلكينها؟ ألم يكن هناك أمل في تغيير قادم؟ أليست هذه سنة الحياة المتبدلة؟ أليست هذه ابتلاءات و امتحانات يمر بها جميعنا؟ أعلم أنك تساءلت هكذا لشهور و لم تجدي الإجابات، بل وجدتي الإنكار و التكفير أحيانا لمجرد أنك أخذت في التفكير..
(زينب): هل تذكرين الأطفال الافتراضيين الذين كنت تلعبين لهم بعرائسك البسيطة الجميلة لتحكي لهم قصتك مع السمنة؟ هل كنت تمرحين مع (زينب) الطفلة أياما قبل الممات؟ أريد أن أقول: إنهم يشتاقون إليك الآن يا (زينب).
كذلك، الجثث التي بكتها (زينب) في (رابعة) شاهدة على نقائها. شاهدة على نقاء ضميرها الذي ينتمي للانسانية دون أية إملاءات أو تحزبات. و هذا هو التناقض الذي شكل حياة (زينب) بين فتاة تريد أن تفعل شيئا دون قيود أو أطماع و بين ساسة يريدون كل شيء أيا كانت الوسيلة. كنت تشاهدين الدبابات تسير نحو الاف من البشر في الميادين لتقتلهم فصرخت..لا لم نخرج لأجل القتل..لم نخرج لأجل الظلم...صدمك ساعتها أن الكثير من أصدقائك الجدد خرجوا لأجل هذا و كانوا يعرفون جيدا ما سيحدث..أصدقاؤك الجدد، كثير منهم، صمتوا على المذبحة..و لم تعودي صديقة لهم لأنك كنت أنقى من هذه الفعلة الدنيئة. كنت حينها قوية، كنت أقوى من الموت فخرجتي تواجهينه في ميدان (رابعة) حين اقترب موعد الفض..تنتظرينه يوما و يوما و يوما، ثم تجلسين و سط الجثث التي سبقتك إلى الحياة الأخرى تبكين وحدك يوم المجزرة. (رابعة) كانت صدمة جديدة لك، أيتها الصغيرة و لغيرك من الملايين، في مصر، وفي كل مكان...(رابعة) كانت مظلمة جديدة لك... (رابعة) فوقتك يا (زينب) و رجعتي تكتبي عن ظلم العسكر ثاني..زي ما كتبتي أيام (محمد محمود)..مش مهم عندك مين المظلوم المهم عندك تقفي معاه و تقولي للظالم كفاية انت مش هترتاح الا لما تخربها و تموتنا كلنا. قلتيها يا (زينب) و غيرك قالها فكانت نهايته قبلك (برصاصة) و لسه هتكون نهايات كثير بعدك (برصاصات) الغدر. طول ما الاصدقاء القدامى و الجدد ضد بعض و ساكتين على الظلم لمجرد انه مش طايلهم. و هيموت كثير غيرك بالانتحار كل يوم من اللي شافوه في الدنيا.

إن انتحار(زينب) لهو مثال من انتحارات أخرى لم نكتب عنها: هناك مليون حالة انتحار سنويا...لكني اكتب عن عوامل انتحار كان يجب أن تتغير قبل انتحار (زينب) و غيرها من المصريين و أمثالهم من المعذبين المظلومين الظالمين لأنفسهم لأمنع هذا الانتحار. لم تكن (زينب) وحدها هي المقصودة في كل هذه القصاصات..هناك المنتحرون في صمت، و المنتحرون في تكتم..هؤلاء رغبوا في الموت بدون ضجة و ربما لم يكن يشغلهم ما سيحدث موتهم من تغييرات أو تأثيرات على المحيطين..هؤلاء أرادوا الموت دون رسائل، فجأة دون ضجيج....لكن هناك من ينتحر تاركا رسالة مكتوبة أو جاعلا وفاته رسالة للمحيطين..وعلى الرغم من هذا لم يلق أية احترام أو ذكر لسبب وفاته و قيدت حادثة انتحاره (وفاة طبيعية) لأسباب اجتماعية..إن فعلة المنتحر البائس الذي لم يعد إلا ذكرا، صارت سبة في جبين العائلة يجب التخلص من ذكرها و من سيرته، رغم أنه أراد فقط أن يتخلص من حياته بسبب ضائقة أو ظلم تعرض له..إنه إجهاز على رغبة المنتحر الأخيرة في ذكر سبب انتحاره و نشر رسالته بالتكتم عليها بجملة (وفاة طبيعية). للمنتحر حق علينا فلا تضيعوه مرتين، كما ضاع مرة في حياته...
للمنتحر حقوق علينا، فهو ميتنا الضعيف الذي رحل..من الجانب الديني ربما يستحق ذكر محاسنه و الدعاء له و التصدق عليه..و من الجانب العقلي الأخلاقي، يجب أن يعترف كل من أذنب في حقه و قاده إلى طريق الموت بذنبه..لا تجلدوا أنفسكم، لكن اعترفوا فيما بينكم بالخطأ و صوبوه في العلن..لا تكابروا. ولا تجعلوا ميتكم نسيا منسيا. فقط تغيروا للأفضل.
هناك من ينتحر لأنه غير محصن عقليا لتحمل المصائب. و هناك من ينتحر لأنه عقليا تحمل الكثير من المصائب. (زينب) كانت من النوع الثاني للأسف. و التعامل معه أصعب. النوع الأول يحتاج إلى التوعية و بناء العقول جيدا حيث ينتشر بين المراهقين و ضيقي الأفق. النوع الثاني يحتاج إلى القوة الذاتية والصحبة القوية المساندة له.. سأقول له باختصار: كن قويا..كن واقعيا..كن صبورا و مثابرا..غير أحلامك أو طوعها..كن مؤمنا..إن الصبر له ثواب حتى لو تأخر أو لم يتحقق الحلم..لكن الانتحار إثم و بالانتحار لن يتحقق الحلم.
لماذا لا يقوم المنتحر بنحر من ظلمه و فضحه بدلا من الانطواء و البكاء ثم الانتحار؟ لماذا؟ فليكن رد فعلك مغايرا لما يتكرر، فالانتحار ليس (موضة) نقلدها..إنه غباء، ضعف، فشل، إثم...هذه هي الحقيقة، فكن قويا.المظلومون الفقراء لا يملكون إلا نحر أنفسهم؟ كانت هذه الآفة تنتشر في مطلع العام 2011 بعد حرق بوعزيزي المسكين نفسه. لا تكرروها. ألهذا الحد استطاع بعض صغار الظالمين التحكم في الفقراء العاملين و في قوتهم للحد الذي يجعلهم ينتحرون؟ إنهم ليسوا بأحسن منهم حالا و ربما يقاسون نفس الظلم الاجتماعي و الاقتصادي.. فلماذا يطغى الناس بعضهم على بعض على الرغم أنهم أنفسهم يعانون نفس الظلم؟ لماذا يوجهون ظلمهم لغيرهم؟ و لماذا يلجأ المطحونون ممن هم في أقل درجات السلم الاقتصادي و الاجتماعي (المهمشون) إلى الانتحار بعد فشل كل محاولات حياة الكفاف؟ لماذا لا يثورون؟ لماذا لا ينحرون الظالم الأكبر؟
رسالة إلى كل منتحر: لماذا تكتب للظالم الأكبر رسالة تحمله مسؤولية ظلمكه بظلمه ثم تنتحر؟ هل تشكره على الظلم أيها الأحمق؟!
و كلمة إلى كل ظالم: (إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال. و الظلم محرم مطلقا لا يباح بحال. ابن تيميه).

لو كتبت لك حياة أخرى جديدة: ماذا كنت ستفعلين و ماذا كان علينا أن نفعل؟ لقد تقطعت بك السبل لأي عمل إلا ما قدمت من عمل بين يديك يسبقك في آخرتك، خيرا كان أم شرا..أما نحن فما زال أمامنا الطريق؛ لنمحو الشر الذي اقترفته أيدينا و لنكتسب خيرات جديدة استعدادا لهذا اليوم. فمن يتعظ؟
ما لم تكتبه (زينب)..رسالة لنا: كان هناك أمل تجسد لي في (جماعة)، ثم تجسد لي في (شخص)، و في( ثورة)..و مع كل صدمة عرفت أنه لا أمل بانخداعي في كل هؤلاء.. ربما أنا التي وضعتهم في درجات أعلى مما يستحقون، أنا المخطئة إذن؟ حتى ثورتنا كانت انتفاضة على الورق، بلون أحمر كدم الشهداء. نهتف و نشارك في كل فاعلية بدون تغيير..بينما أرض الواقع تتغير بأيادي أقوى منا و من دم الشهداء. تتغير بلعبة قوية اسمها (السياسة)لا نحسنها...حاولنا أن نحمي أصواتنا الانتخابية فداسوها و داسوا أصدقائي معها بالدبابات..نحن جيل لا يقوى إلا على التضحية و الموت في سبيل أوطاننا. و هذا كل ما نملك..لا نملك أي قدرة على جيش يقتل و لا ساسة يتبادلون الأدوار و لا على قضاء يلهو بأعمار البشر.
(زينب): لو كتب لي حياة أخرى، لم أكن لأسير وراء أي خديعة أو أمل كاذب يحطمني، على أفضل الأحوال، ربما كنت سانزوي حتى أموت فتكون هذه وسيلة أسهل للانسحاب. لا أعلم، اكتبوا أنتم لي حياة جديدة في ذاتكم..عيشوا ما تبقى لي من العمر و افعلوا ما لم استطع فعله. اصنعوا عالما من العمل التطوعي الجاد دون مطمع من ورائه، عالم من العمل النبيل دون حسابات أو تحزبات. اصنعوا تغييرا لأجل المهمشين من الشباب دون أن تمسوا كرامتهم بعيدا عن عالم السياسة. افعلوا ما شئتم مما لم أحققه في حياتي، لكن اذكروني بخير.
علموا أنفسكم و اقرءوا و إن شططتم في التساءولات فكونوا أقوياء في الرد على كل متشكك و كل متسائل و لا تتهربوا و تنعتوه بالكفر. فليس كل من سأل مُنْكِر، و ليس كل من سكت مُصَدِّق. و الأقوى هو صاحب الحجة بالعقل التي تقنع غيره. لا تتعجلوا رجم غيركم فلا تعلمون ماذا يخبإ لكم القدر غدا.

تمت.
 مصر- 27 ديسمبر 2014 

Sunday, September 27, 2015

ماذا يمكن للبحث العلمي أن يفيدنا به عن "التدافع" البشري؟ بقلم راشيل فيلتمان - ترجمة أ/حمزة المزيني (4)

 ماذا يمكن للبحث العلمي أن يفيدنا به عن "التدافع" البشري؟
بقلم راشيل فيلتمان
The Washington Post
 By Rachel Feltman 
September 24 at 1:59 PM



ترك حادثُ تدافعٍ وقع يوم الخميس في [منى] وفاة أكثر من 700 شخص، ومئات من الجرحى، ولا تزال أعداد المتوفين تتزايد. وليس التدافع الذي حدث خلال ما يمثل قمة فترة الحج السنوي إلا الحادث الأخير في سلسة مألوفة من مثل هذه الحوادث ـــ وإن كانت [هذه الحادثة من] أكثرها في عدد المتوفين في الخمس والعشرين الماضية.
ومن الصعب أن نتخيل كيف يمكن أن يتحول جمع إلى أن يكون على هذه الدرجة من الحالات القاتلة ـــ خاصة إن كان القصد منه أن يكون جمعا سلميا. لكن هذه الظاهرة مألوفة جدا حتى إن [تكرار حدوثها] ليدعو إلى استشارة الخبراء بالتحكم في الحشود من أجل المناسبات الأعلى ازدحاما [تشير الكاتبة هنا إلى رابط لمقال في الصحيفة نفسها عن الاستعدادات لزيارة البابا إلى أمريكا ومنها التحوُّط من وقوع حالات تدافع في التجمعات التي سيشارك فيها].
ومع أن أكثر الباحثين يركزون على كيفية منع هذه الكوارث التي تسمى بالتدافع عن طريق الحيلولة دون حدوث ازدحام في أماكن التجمعات إلا أنه لم يُنجز إلا قدر قليل من البحث [العلمي] عن الكيفية التي يبدأ بها التدافع ــــــــــ أو السبب وراء بدايته.
يقول أحد الناجين من التدافع في [منى] إن الناس كانوا يتساقطون كما تتساقط "أحجار الضامنة" قبل أن يُداسوا ويختنقوا.
وكثيرا ما أدت أحداث التدافع القاتلة إلى تعكير أجواء المناسبات السياسية والاحتفالات الموسيقية والمباريات الرياضية والمناسبات الدينية في العالم أجمع.
فقد توفي مائة شخص تقريبا سنة 1989م في مدينة شيفيلد البريطانية، في واحدة من أسوأ الكوارث في تاريخ كرة القدم، حين دُفَع الحشد ليدخل إلى ملعب هيلزبورو لحضور إحدى المباريات.
وفي سنة 2005م لقي أكثر من 960 شخصا حتفهم نتيجة لتدافع على جسر [الأئمة] فوق نهر دجلة في بغداد حين انتشرت شائعات عن وشوك هجوم انتحاري بقنبلة مما تسبب في ذعر زوار أحد الأضرحة هناك. وكانت تلك الحادثة، وقتها، أعظمَ كارثة من حيث عدد المتوفين تقع في يوم واحد [في العراق] منذ الغزو الامريكية قبل سنتين.
وفي سنة 2010م خلَّف احتفال بإحدى الإجازات في العاصمة الكمبودية فنوم بنه 353 ضحية في الأقل نتيجة لدعسهم حتى الموت بعد أن بدأ جسر معلق في التحرك مما جعل آلاف المحتفِلين يحاولون الفرار.
وفي تلك السنة نفسها أظهر استقصاء لما كُتب [من تقارير] عن أحداث التدافع أنه على الرغم من الجهود التي تُبذل لمنع تلك الكوارث إلا أنها آخذة في التزايد. ومما لاحظه الباحثون أنه لا يعرف إلا القليل جدا عن المسببات الحقيقية لهذه الكوارث. كما لاحظوا أن أوائل المباشرين لتلك الحوادث يجعلون همهم الأول، وهو تركيز صحيح، العثورَ على الجرحى ومعالجتهم، لا تدوين ملحوظات تفصيلية عن التدافع نفسه.
ومما قاله أستاذ طب الطوارئ المشارك في جامعة جون هوبكنز الدكتور إيدبرت هسو، في تصريح نشر حين ذاك [سنة 2010]: "إنه يجب على منظمات الصحة العالمية أن تعترف بأن هذا نوع مهم من الكوارث. وإذا ما جعلوا من تقاليدهم أن يبعثوا أحدا بسرعة لكارثة من كوارث التدافع من أجل أن يرى ما حدث فربما نحصل على تقارير تفصيلية يمكن أن نستخدمها للمقارنة والتقابل. إننا لن نتمكن من فهم الكارثة التي نتعامل معها فهما حقيقيا من غير تلك التقارير ".
ويقول [البروفيسور] ج. كيث ستل، المتخصص في دراسات أمن الحشود ومخاطرها، في رسالة إليكترونية لصحيفتنا، إن حالات "التدافع" البشري الفعلية قلَّما تلاحظ. والحوادث التي يشير إليها الناس على أنها حالات تدافعٍ مختلفةٌ إلى حد بعيد عن حالات التدافع الحيواني المشابهة لها، ويمكن أن يشار إليها بشكل أكثر دقة على أنها حالات من "سقوط الحشود ودهسها".
ويقول ستل: إنه يبدو أن ما "يبدو أنه سقوطُ حشود ودهسُها ينشأ عن طريقتين من الحركة في مكان مغلق". وهذا [نوع من] التضاغط ــ لا التدافع. وحالات سقوط الحشود وتداهسها [أي أن يدهس بعضهم بعضا] بسيطة من حيث العملية الميكانيكية، مع الأسف: فإذا ما دُفع الناس دفعا شديدا بعضهم ضد بعض (أي 7 أشخاص في فضاء مساحته [ثلاثة أمتار مربعة تقريبا] كما تقول إحدى الدراسات) فمن الضروري إلى أقصى أحد أن يستمر الذين في مقدمة الحشد في التحرك بسرعة تماثل السرعة التي يتحرك بها الذين يسيرون وراءهم. أما إذا لم يحدث ذلك فسوف يتحرك الذين في الخلف إلى الأمام ــ حين لا يستطيعون رؤية مقدمة الحشد ـــ بحثا عن مزيد من الفراغ المكاني، مفترضين أن الذين أمامهم سوف يستمرون في إفساح الطريق لهم. فإذا صار الفراغ أقل تناسبا لسبب ما ـــــ إما لأن شيئا ما اعترض المجموعة التي في المقدمة، أو لانتشار إشاعة بين الذين في الخلف عن تعرض الناس للسقوط والدهس، وهو ما يجعل الحشد يزيد من سرعته ــ وهو ما يؤدي إلى [عَصْر] الذين في المقدمة، فسوف ينشأ عن ذلك إنتاج قوة تكفي لسقوط االناس ودهسهم في المكان الذي يقفون فيه.
ويقول ستل إن "الصورة التي أَستخدمها لتصوير هذا الحدث في أثناء تدريسي [لهذه الظاهرة] هي دفع بيضة في [مؤخرة] دجاجة" [لصعوبتها واستحالتها].
وأكثر الاحتمال أن تبدأ أكثر حالات السقوط والدهس القاتلة بحالة وفاة واحدة أو بعدد قليل من الوفيات التي تنشأ عن القوة الهائلة للجماعة المتلاحمة، وهو ما يتسبب في ذعر جماعي. وربما لا تنشأ حالات الاندفاع عن تحرك قوي واع إلى الأمام. بل يجادل الخبراء أن إلقاء اللوم على سلوك "الحشد" خطأ، إذ يمكن أن تنشأ أكثر حالات السقوط والدهس عن محدودية المكان الذي يقفون فيه. بل حتى حالات السقوط والدهس أو التدافع التي تحدث في حالات الكوارث الصاخبة كالمباريات الرياضية ومناسبات البيع المخفَّض أو الاحتفالات الموسيقية ربما تعود إلى الإجهاد البدني بدلا من كونها نتيجة لأي سلوك بشري محدد.
ويقول ستل الذي درس في السابق حركات معينة من حركة الحشود خلال الحج من أجل تقديم بعض الاستشارات الخاصة بالتحكم في الحشود إن من الصعب تحديد ما حدث للحشد في يوم الخميس [الذي وقع فيه التدافع في منى] بصورة دقيقة. لكنه يظن أنه لابد أن قدرا هائلا من الذعر قد حدث.
ويفسِّر ذلك قائلا: "يبدو كأن هذا الحادث كان نتيجة للتضاغط بين تيارين متقابلين [يسيران] بسرعة تجاوزت قدرة النظام الآمنة [على استيعابه]. وحالما يحدث ذلك فسيكون الوقت متأخرا حينها لإيقاف الحادث عن التصاعد. 
وحين يُصاب الناس بالذعر يزداد الأمر سوءا. ذلك أننا [بوصفنا بشر] ضحايا لنظامنا الأحيائي [البيولوجي] حين نكون داخل حشد متضاغط بقوة. لذلك لن تكون الاستجابة المعهودة المتمثلة بمبدأ "إما أن تقاتل أو تهرب"، حين يندفع الإدرينالين، عاملا مساعدا أبدا. ذلك أنه إذا استطاع المتضاغطون الذين يتصارعون للبحث عن متسع من المكان تهدئة أنفسهم والعودة إلى وعيهم، فلن تحدث حالات السقوط والدهس هذه. لكن أكثر الناس سيكونون عبيدا لتسارع ضربات القلب والشعور بالحاجة الفائقة للتنفس حين يواجهون الموت ــ وعندها تحدث الرغبة الجامحة في الهرب إلى مكان آمن مهما كلف الثمن. 
ولمنع السقوط والدهس من النوع الذي حدث [في منى]، يعمل ستل وباحثون مثله على التنبؤ بالحركة التي ربما يرغب الحشد أن يقوم بها. فهو يقول لصحيفتنا في مقابلة سابقة عن التحكم بالحشود: "إن [فهْم] ذلك كله يكمن في الرياضيات والتنظيم وعلم النفس". فيحتاج القائمون على تنظيم الحشود، حين يشارك الناس في مناسبة دينية، إلى أن  يتنبهوا إلى سرعة هؤلاء الأفراد والاتجاه الذي يحتمل أن يتخذوه، تبعا للهدف من ذلك التجمع. فإذا لم تستطع أن تجتهد على تيسير [تلك السرعة والاتجاه] فسوف تنتهي إلى إثارة أنواع من السلوك المؤدية إلى الإحباط". ويمكن أن تؤدي تلك الأنواع من السلوك المحبَط إلى موجات من الرعب الذي يصيب الجمع المتضاغط بقوة.
وقد صار من الممكن جدا في العالم المعاصر لحشود هائلة أن تتجمع. إذ يمكن أن يطير الناس إلى أي مكان في العالم للاشتراك في مناسبة دينية أو اختطاف نظرة إلى أحد القادة. وستظل حالات سقوط الحشود ودهسها احتمالا مرعبا في أي واحد من مثل هذه التجمعات.
___


سأضيف تباعا مصادر أخرى لقراءة خلفية الحدث... (علم نفس- طب طواريء- علم كوارث-)

الجزء الأول: http://shayunbiqalbi.blogspot.com.eg/2015/09/blog-post_26.html
الجزء الثاني:  http://shayunbiqalbi.blogspot.com/2015/09/blog-post_59.html


مصادر متعلقة بالموضوع:

https://twitter.com/wwcrowds/status/647306732776095744

هام جدا:  لماذا يجب أن تخفف الحواجز الحديدية حول الخيام لتلقي المصادمات؟  

شاهد..ماذا فعل بعض الحجاج هرباً من الموت؟

"On the left side and the right side there were tents. They closed their doors and said sorry, we can't let anyone enter. I asked the question: if you'd only open your doors, people would only come into your tent just for five or 10 minutes. And I say then, no-one would have died."

في وجود جموع غفيرة، كيف نحافظ على سلامتهم؟. مقال النيويوركر



Crowd safety expert - 'Hajj is like a city on the move'
Blaming the victims?
 Hajj 'stampede'
Collection of news..what is the correct term..crush/ stampede?
((Please ignore all references to the words “Stampede”, this site condemns the use of this description of a crowd related incident as misleading to the reader. Please read the related research by professional and respected practitioners in the field of crowd safety management, risk analysis and phycology to better understand the events of today)) 

Social identification moderates the effect of crowd density on safety at the Hajj


Sunday, September 06, 2015

بين قتيل حلبجة، وغريق كوباني.. صغار قتلهم ظلم الأشرار، وصمت الأخيار

كتبت د/إيمان الطحاوي

بين قتيل حلبجة (العراق) وغريق كوباني (سوريا).. صغار قتلهم ظلم الأشرار وصمت الأخيار

كان الجد يحتضن حفيده لعله يحميه من زخات الغاز السام التي تتساقط على مدينة (حلبجة.. ھەڵەبجە).. وحين خارت قواه سقط محتضنا حفيده...لا أحد يعلم من مات أولا؛ الصغير أم الجد؟ ولم ظل الجد يحمي جثته؟ ربما ليستطيع دفنه إن نجا من الموت. ولا أحد يعلم ما الذي فعله تحديدا هذا الصغير وهذا العجوز (عمر خاور) ليصب عليهم الحاكم (صدام حسين) غضبه في صورة قصف بالأسلحة الكيماوية على مدينة حلبجة شمال العراق ربيع عام 1988...


صورة رمزية في متحف حلبجة للعجوز و حفيده
صورة رمزية في متحف حلبجة تجسيدا لبعض القتلى


(عندما كنت اقترب، كنت أرى الضحايا في وضع يشير إلى أنهم كانوا يحمون شخصا آخر، رضيعا أو طفلا أو زوجة، لكن الجميع فارقوا الحياة. وتوفى شيخ كبير وهو يقطع كسرة خبز، وكان آخر مبتسما وبدا أنه توفى أثناء ابتسامته...آخرون ماتوا ببطء وهم يعانون ألما شديدا. لقى الجميع حتفهم في غضون ثوان..) – جون سيمبسون محرر الشؤون العالمية عن مجزرة حلبجة لبي بي سي BBC


صورة هنا وهناك: احتاج الأمر في حلبجة 1988 إلى نحو 28 صحفيا قاما أولهم بتصوير آثار المجزرة بعد 40 ساعة...في حين لم يسمح للمصورين أن يتلقطوا الصور وأن يدخلوا (صبرا وشاتيلا) في 1982 إلا بعد عدة أيام حيث بدأت الجثث في التحلل..بينما في يوم 3 سبتمبر من العام 2015، كانت المصورة التركية (يلوفير دمير) تنظر إلى جثة الطفل (إيلان عبد الله شنو كردي) مبهوتة حين تراءت أمامها على رمال شاطئ مدينة (بودروم) السياحية جنوب غرب تركيا حيث توفى قبلها بيومين غرقا مع أخيه الأكبر وأمه. وقالت: لم يكن أمامي إلا أن أمسك (الكاميرا) والتقط الصورة. هكذا فعلت المصورة بضغطة زر، حركت فينا كل هذه المشاعر..   




لا فرق بين المجزرتين من حيث أركان المجزرة. قاتل ومسرح جريمة ومستضعفين. قديما، كنا نرى صورا أو مشاهد ضوئية لآثار ما بعد ايام من المجزرة حسبما تسمح الظروف. أما اليوم، فالتصوير صار مباشرا للمجازر وحصريا في بعض الأحيان. وربما يستبق إعلام القاتل أحداث ومسرح مجزرته ويصورها ثم يسندها لغيره مثلما يفعل نظام الأسد. الفرق بين مجزرة وأخرى ليس عدد الضحايا ولا وحشية القتل. لكنه ردة فعل هذا العالم. اعتدنا مؤخرا مشاهدة المآسي تتكرر يوميا دون أن تطرف لنا عين. تجلدت الأحاسيس. لهذا، اتساءل: هل تأثرنا حقا بصورة هذا الطفل (إيلان)؟ رغم ادعاء الجميع بأنهم بهتوا لصورة جثة الطفل المسجاة على شاطئ قد قذفها موج بحر (إيجه).. في حين علقت ضيفة على قناة العبرية (العربية) مبتسمة أن الصورة نظيفة من الناحية التصويرية التقنية! (كانت باردة وتتبسم في حين المذيعة متجهمة على غير عادة مذيعات العربية وربما ودت لو قالت للضيفة احترمي مشهد الموت قليلا وكفي عن الابتسام المصطنع. أو هكذا قرأت المشهد). 
(كأن الحياة تجمدت، أو توقفت تماما. مثل أن تشاهد فيلما وفجأة توقف الصورة في إطار واحد. كان نوعا جديدا من الموت بالنسبة لي، تخيل أن تذهب إلى مطبخ ما وترى جثة امرأة تحمل سكينا حيت كانت تقطع جزرة. (..) وما حصل عقب الهجوم كان أسوأ. بعض من الناجين استمروا بالقدوم لنقلهم من مكان الهجوم بالمروحية. كان لدينا 15 أو 16 طفلا جميلا توسلوا لنا كي ننقلهم إلى المستشفى. لذا جلسنا كلنا مع كل الصحفيين، وكل منا يحمل طفلا في يده. ما أن أقلعنا حتى بدأ سائل بالخروج من فم الفتاة الصغيرة التي كانت في ذراعي ولفظت أنفاسها الأخيرة وماتت.)  - كاوه جولستان مصور إيراني لفاينانشال تايمز عما رآه في حلبجة 1988.


لقد بهتنا لأن هذا الموت بعيد عنا ليس كموت الآلاف تحت البراميل والرصاص والمدفعية الثقيلة. موت غير مشهود لنا. فلم يشهده إلا من نجا منه في هذا القارب الذي ضم (12) لاجئا. ربما سمح القدر للأم المكلومة (ريحانة) أن تشاهد مع زوجها (شنو كردي) اثنين من أبنائهم يموتون ثم تحلق بهم. فيظل الأب أسير هذا المشهد لا يستطيع دفنه و هو يدفن ثلاثتهم في مقبرة أسرته في (كوباني). ونظل أسرى لمشهد الطفل المفاجئ يشي بموت بعيد عنا. لكن الموت قريب جدا ونحن لا نعلم. 



  الصور لم تعد تحرك الثورات. لكنها صارت للاستهلاك واستجلاب التعاطف وقليلا ما تؤثر على الرأي العام الفعال... انظر صورة الجثة التي تكاد أن تنقسم على سور في مجزرة سوق سراييفو قبل نهاية الحرب في التسعينيات. كانت ذريعة مقبولة لتحث الجميع على الانصياع لاتفاقية دايتون (نهاية 1995) وتدخل أمريكي (فعال). رغم أنه سبقها عشرات المجازر الأكبر عددا...ولن أقول الأكثر فظاعة، فعندي مقتل واحد أمر فظيع كمقتل المئات أيضا. إن توظيف الصور بطريقة ممنهجة لهو عمل إعلامي بامتياز كقوة مخملية..



قبل هذا الحادث بيومين، كانت هناك صور أخرى لأطفال آخرين لقوا حتفهم في البحر لكنها لم تلق هذا الرواج. كانوا أكبر سنا وكانت صورهم أكثر وضوحا لما حدث لهم في البحر.. هذه بعض الصور التي لم تنتشر، رحمهم الله جميعا. 

 كأنه ابني أو ابنك، كفى رعبا. تألمت وأنا أتخيل أن يكون هذا ابني وهذا مصيره. تخيلت اللحظات التي بدأ فيها قارب الموت في الغرق وكيف حاول الأب أو الأم أن ينقذ الصغير (إيلان) أو أخيه الأكبر ثم ينتهي المشهد بأن يفقد الأب ثلاثتهم بعد أن هرب قائد الزورق الصغير إلى البر. . هل كان عليه أن يختار وسيلة أكثر أمنا وماذا فعلت لهم سترات النجاة إن وجدت؟ لقد جمع مثل غيره نحو (2000 دولارا) كما قيل ليهرب. هناك الكثير ممن لم يجمع هذا المبلغ ليستطيع الهروب من الموت المحدق عبر براميل الموت في سوريا إلى موت آخر محتمل في قوارب اللجوء فقد ينجو أو يموت فيه.... تذكرت مأساة غرقى عبارة السلام. يمر الآن أما عيني مشهد مماثل لها تماما...الناس غرقى يصارعون الموت بينما مبارك وزوجه وولديه يلهون ويشاهدون مباريات كرة القدم وفي تلك الأيام، يصمت الشعب وربما يلهو معهم...على الجانب الآخر بفارق زمني تعدى العشر سنوات، يجلس بشار الأسد ووزوجه أسماء الأخرس وابناءهم (الثلاثة) في أمن ومرح وربما يتحدثون عن خطة المأفون (الأسد) في القضاء على الإرهابيين، بينما قلة /جزء من نفس الشعب يبارك أيضا هذه الحرب على بني جلدته ولا تؤثر فيه مشاهد المجازر ولا النقاش ليعود للحق. سؤال عابر: أو لم تشاهد أسماء الأخرس ومعها هذا الشعب أي من صور الأطفال القتلى بسلاح بشار الأسد؟

The child, identified as three-year-old Aylan Kurdi, is believed to be one of 12 Syrians who died when their boats sank trying to reach Greece.
 (AFP PHOTO / DOGAN NEWS AGENCY)

لا يشعر بنا إلا الإنسان المجرد..  رغم أن الإنسانية تتجلى في ديننا وعروبتنا لكن يؤسفني أن أقول ليسوا جميعا يتحلون بجوهر الدين أو العروبة، فلا تتوسموا كثيرا في بني جلدتكم. لا تظنوا أن الغرب سيدعمكم جميعه. لا تصدقوهم جميعا: حينها كانت أمريكا وإنجلترا لا تزال تدعم صدام حسين مادامت حربه مع إيران لكنها انقلبت على صديق الأمس حين تغول غربا. حينها صمتت أمريكا ولم تفتح الملف جديا إلا بعد نحو عقدين من الزمان. لا تنخدعوا بما تفعله أمريكا وتحالفها ضد بشار الأسد وداعش. فهم لا يعنيهم آلاف المهجرين والقتلى والمصابين. لا يهمهم إلا مصلحتهم. ومن باب استغلال الوقت حتى يتمكنوا من التحكم في الوضع بصورة أفضل، ومن باب تجميل صورتهم، فإنهم يتباكون وربما يستصرخون العالم بصورة ممنهجة دعما للاجئي سوريا رغم أن سياستهم هي التي حولت الدفة لهذا الوضع المأساوي على مر سنوات. (لا حظ ان أزمة قوارب وسفن الموت ليست وليدة اليوم، والاهتمام بها يظهر بصورة مقننة على دفعات).






لسنا مذنبين، لكننا مشاركين في المسؤولية:ولناا في كل صورة قصة تخصني وتخصك عزيزي القارئ،.. كل صوة تحكي لنا كيف خذلناهم ونحن أمة المليار. وكيف استكنا لحكامنا بدعوى أننا مستضعفين. وكيف شاركناهم إثم الصمت على المجازر اللهم إلا وقد استرضينا ضميرنا بعبارات الشجب وعبرات التباكي. أما اليوم فصور الظلم نراها عيانا بيانا حال وقوعها. وننشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني بسرعة فائقة. ثم ماذا نحن فاعلون؟ إن أردتم فشاركوني من باب (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا).. لماذا لا نضغط على حكوماتنا بكل السبل لنستقبل أعدادا أكثر من اللاجئين؟ هل تعلم أعداد اللاجئين السوريين وتوزيعهم في بلدك؟ هل تعلم كم الدعم الذي تقدمه ميزانية دولتك أو الجهات غير الحكومية لهم؟ إن هناك ميثاق لتشغيل هؤلاء اللاجئين يجب أن تلتزم به الحكومات وعليها أن تنسق (جيدا) مع المفوضيات لتسجيل اللاجئين وتحسين ظروف معيشتهم وعليك أن تراقب هذا. نعم أنت رقيب على حكومتك أو من يمثلك. فإن لم يفعل؛ فيجب أن يكون لك صوت. ربما يكون هذا الحديث ضرب من (الفانتازيا) حين أوجهه لعالمنا العربي الذي يئن تحت ظلم الاستبداد لكن المحاولة الجادة المنظمة لن تكلفنا حياتنا لمجرد أننا نكتب أو نتظاهر مثلا من أجل اللاجئين لتتحرك الحكومات بصورة أفضل...لسنا مذنبين، لكننا مشاركين في المسؤولية..و هذا هو الخيط الرفيع الفاصل بين جلد الذات المبالغ فيه وتأنيب الضمير الفعال...لا يجب أن نكتفي بأن نقول (وقد حدث بالفعل) إن دولتنا من أكبر المتبرعين أو المستقبلين اللاجئين مستكفيين بهذا الدور الهزيل. فما يقدم هو بسيط جدا أمام ما يجب أن يتلقاه اللاجئون والدليل هو المأساة التي تضطرهم للجوء إلى الغرب بدلا من اللجوء إلى الشرق بهذه الأعداد راكبين قوارب الموت. وما خفي كان أعظم من أعداد من يستطيعون الهروب من الموت. وآلمني مقال روبرت فيسك الأخير حيث قرأته وأنا أعد هذه المقالة وكأنه يلومننا بطريقة مهينة. 
  
معلومة هامة: ألاف الإعجابات (اللايكات) لا تحضر لهم بطانية في الشتاء ولا توفر لهم خيمة تقيم المطر أو حر الصيف في الأماكن التي ينزحون إليها. كونوا عمليين لا فيسبوكيين. ابحثوا عن الجهات الجادة والآمنة للدعم الفعلي. لم لا تشاركوهم بوقتكم وتعملوا أيضا معهم.  

عمليا، نعود ونتساءل: لماذا قضيت هذا الصيف في أوروبا أو ماليزيا أو في غيرهما بتكاليف باهظة؟ لماذا لا تتخلى عن الترف الذي طفا على السطح في عالمنا العربي والإسلامي وتقضي أجازتك في بلدك وتتبرع بما فاض عن حاجتك لأجل اللاجئين. . عفوالأجل إنسانيتك وحقهم عليك. فلنكن أكثر عملية، ولنبحث في بنود حياتنا اليومية عن كل ترف ونتركه لمن يستحقه.. لن أقول عيشوا حياة الكفاف لكن الحد المعقول والكريم. ونعلم أن لكل معوز حقا فيما يتنعم به آخرون حد التخمة وأننا صرنا (مترفين) وسيأتي يوم علينا. فلا أحد يعلم متى تدور دائرة البلاء عليه من حيث لا يتوقع. ربما يرسل الله لنا (تسونامي) سياسي أو أي كارثة كونية فلا أحد آمن. فلنكن أكثر جدية ومصارحة، إننا ننظر لما نعطيه طوعا كأننا نحسن به على غيرنا باعتباره (صدقة) وليس (حقا).. بينما يقول ربنا (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) سورة المعارج...ولنكن أكثر وضوحا لنصل للنقطة الفاصلة، وهي أن كثير منا لا يهتم إلا بأمر ابناءنا وأهلينا ولو كان جار لنا في محنة فلن نشعر به. وإن كان هذا الجار من غير جنسيتنا أو ديننا أو قومتينا (إن صح التعبير) كأن يكون أزيديا أو كرديا مثلا فلن يهتم به كثيرا. لا تنسوا أن نفس القوارب التي عبرت البحر لأوروبا تحمل مهاجرين أفغان وغيرهم الكثير من جنسيات مختلفة لكن معظمهم /جلهم من السوريين. ارتفع عدد اللاجئين المشردين رغم أن ديننا وعروبتنا يحملانا على الانسانية ويرتقيان بنا إلى مكارم أخلاق الانسانية دون تفرقة. كثير لم يلاحظ أن الطفل (إيلان) كردي سوري وكثير من المهووسين ب (الدولة الإسلامية) أو المعادين (للكرد) لم يلتفت لهذا إلا بعد أن عرف اسم وهوية الطفل...فتعاطفوا بدءا، ثم صمتوا. نعم، من قتل هذا الطفل هذه المرة ليس فقط (بشار الأسد) ونظامه لكنه (أبو بكر البغدادي) وتنظيمه. أنت أيها القارئ بتهليلك لأيهما شاركت في قتله. لك الحق أن تختلف مع توجهات الكرد السياسية والحزبية (فهم أيضا يختلفون مع أنفسهم)، لكن اتفق مع انسانيتك وضميرك قبل كل شيء.


 حكومات و أنظمة مسؤولة : تفاوتت سياسات الحكومات تجاه اللاجئين..وصل الوضع إلى مساواتهم في المعاملات (الطبية و الطواريء على سبيل المثال) كالمواطنيين..و بعض الحكومات أوصلت أوضاع اللاجئين لمواطنين درجة أخيرة..و الحمد لله أنها اعتبترتهم مواطنين بشرا لا حيوانات..راجع سياسة حكومات دول الجوار بخصوص اللاجئين الفلسطينيين على مر العقود، لأنها قد تتكرر مع السوريين لسنوات لا يعلمها إلا الله.

 ((إنني سألتك ماذا تنوي أن تفعل بأمر اللاجئين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم آمنوا يوما بتدجيل قادة العرب. لقد أجبتني أن الحكومة ستهتم بأمرهم. فماذا كان هذا الاهتمام؟إ ن اللاجئين يا سيدي لم يأتوا غرباء عندما نزلت ضربة القضاء بهم، ونحنمسؤولون مع الحكومات العربية الأخر عن النكبة التي حلت بهم..)). هذا ليس استجوابا من نائب عربي تجاه أزمة اللاجئين السوريين في 2015...كان هذا في شتاء العام 1951 حين تحدث النائب إميل البستاني، بالتزام إنساني وعربي، مخاطبا رئيس الحكومة اللبنانية عن اللاجئين الفلسطينيين: (13 ديسمبر 1951).


أدبيات الدعاية لأجل الدعم المادي لمفوضية اللاجئين.. (هل تستطيع أن تغلق الباب في وجه أينشتاين. أن تقول (لا) أستطيع أن استقبلك)؟ هكذا خاطبت المفوضية وغيرها من الجهات الأممية والعالمية قلوب وعقول المتبرعين لتوصل لهم أهمية التبرع للاجئين فيتبرعوا منذ سنوات.. حيث إن آينشتاين اليهودي الفار من نازية (أوروبا) كان لاجئا ودرس وعمل في غير بلده الأصل وخدم البشرية. الآن، انقلبت الصورة، حيث تتم هجرات أخرى من العالم الثالث والشرق الأوسط نحو أوروبا. لكن كيف استقبلتهم أوروبا؟ يكفي ما فعلته حكومة المجر لتبرهن لنا عن عنصرية أوروبا و عنجهيتها وأنهم يسوقون إعلاميا لما لا يفعلونه. تركت أوروبا وأمريكا المأساة تتفاقم لصالح بشار الأسد الذي يريد أن يحكم ولو ترابا وجماجم، فتحولت الثورة إلى حرب لا أحد يعلم من سينتصر إن كان هناك من ينتصر في الحروب حقا.  وللأمانة، كانت تصرفات بعض الأوروبيين أرقى من حكوماتهم حين أمدوا اللاجئين بما يستطيعون من طعام لأيام حيث سكنوا الأرض أياما قبيل ترحيلهم من بلد لآخر بالمئات في قطارات مزدحمة ريثما تقرر الحكومات حلا يرضي عنجهية كل دول الاتحاد الأوروبي ولا يؤثر عليها. وعلى وقع التأثير الوقتي المحمود، تبرعت بعض الأندية والمشاهير لهم.  



أيها العنصريون، لقد تعاطفتم مع كردي! هذه الرسالة أرسلناها لزميل طبيب من مهاويس (الدولة الإسلامية) نظريا فقط على فيسبوك وبالصدفة هو لا يعرف عن الكرد إلا أنهم أناس علمانيون يجندون نساءهم للحرب.. فقلت له من فترة وماذا تقول عن السيدة صفية ورفيدة بنت الحارث و غيرهن؟ صمت ولا يجيب. الآن أسأله لماذا تعاطفت مع الطفل الكردي الذي تقتله دولتك الإسلامية (داعش)؟ لا يجيب.. لن أضيف الكثير. فقط أريد أن أقول له أنت عنصري، ولا تمثل الإسلام في شيء. عد إلى تسامح ديننا الإسلام هداكم الله وإيانا. 

وأخيرا، أنا اكتب لأفعل لا لأبكي. أريد ترجمة عملية لهذا المقال. وأريد ترجمة لغوية إلى الكردية وربما لغات أخرى، أما الإنجليزية فأنا كفيلة بها إن سمح الوقت. 
                                                                          5 سبتمبر 2015 
__________

أرقام ومراجع:
UNHCR  : بلغ عدد المشردين من قراهم ومدنهم جراء الحرب، 7.2 مليون لاجئ. ووفقاً لأرقام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فقد اقترب عدد اللاجئين السوريين في تركيا من مليوني لاجئ، حيث بلغ عددهم حالياً 1938999 لاجيء. أما في لبنان، فقد بلغ عدد اللاجئين السوريين 1113941 لاجئاً، في حين بلغ عددهم في الأردن 629245 لاجئاً، أما في العراق فقد وصل عدد اللاجئين السوريين إلى 249463 لاجئاً. عدد السوريين الذين توجهوا إلى مصر بلغ 132375 لاجئاً، في حين توجه 24055 لاجئاً سورياً إلى باقي دول شمال إفريقيا.
 

To shoot an Elephant!