كتبت د. إيمان إسماعيل الطحاوي - مصر (2023)
هل سمعتم بقصة الأم هاجرة؟
أنتيجون:
(وسأقوم بدفنه. حتى
لو تسبب ذلك في موتي. إن كان فعلي هذا جريمة، فهي جريمة شريفة نقية. كيف أقدم
للسماء مجدًا أعظم من دفن أخي؟)
-أنتيجون
حتى هذا العناء،
لم تظفر به تلك الأم. فهي تنبش هنا وهناك عما تبقى من جثة ابنها لتدفنه. مرارة أخرى
تضاف لمرارة القتل بأبشع الطرق.
هذه الأم (هاجرة تشاتيتش) فقدت ابنها (ناهد تشاتيتش) الذي كان آخر نذير لنا بسقوط سربرينتسا في يوليو/تموز 1995. كان آخر صرخة استنجدت بهذا العالم الذي يخضع لمعايير غير الإنسانية والقانون. لم يستجب أحد حتى قُتِل الجميع في بضع أيام.
الحزن لا يفرق
بين الأمهات الثكالى؛ فألم الفقد والغدر والشعور بالخذلان واحد. وطريق النضال
واحد. لكن تختلف الصورة من قصة لأخرى. قصة كل أم ثكلى تبحث عن فقيدها، تذكرني
بأنتيجون، تلك التراجيدية الإغريقية التي كتبها سوفوكليس عام 441 ق م. تحدت الفتاة أنتيجون ظلم الطاغية كريون
وسألت أختها إسمين المساعدة لكنها تخاذلت، خوفا من عقاب كريون. فتولّت وحدها أمر
تكريم جثة أخيها ودفنتها.
أحكي لكم قليلا
عن الابن نهاد تشاتيتش : نهاد
"نينو"
|
تقرير نينو( ناهد تشاتيتش) الأخير من سربرينتسا، 10 يوليو،1995 |
بالكاد غادر نينو سريبرينيتسا، حيث فتح
عينيه على العالم في 29 أغسطس 1969. أنهى دراسته
الابتدائية والثانوية في مسقط رأسه. عاش أفضل أيام
حياته في مسقط رأسه وجمع ذكرياته الأكثر خصوصية في مسقط رأسه. غير مدرك أن الحرب التي ستندلع في
سن العشرين ستغير حياته تماما، عاش الشاب حياة كان يجب أن تذهب مع والدته هاجرا ووالده يونوز (يونس) تشاتيتش ، وقضى بعض الوقت مع أصدقائه.
في 4 أبريل 1992، جاء إلى سريبرينيتسا من نوفي ساد (صربيا-الاتحاد اليوغسلافي سابقا) حيث درس لقضاء عيد رمضان مع عائلته. بقي نينو في سريبرينيتسا حتى 11يوليو 1995 وأبلغ طوال
الوقت عن أحداث الحرب من هذه المدينة..
كان متحمسا لنشر قصائده من الشعر الحر في المجلات
الأدبية، وكتب مسرحيات منها "الخارجون عن القانون"،
وكان يعمل أيضا في الراديو كهاوٍ. قام بتحرير الصحيفة
المحلية " صوت سربرينتسا"Srebrenički glas ".
كان أحد المثقفين الناشطين في سربرينتسا. كان
صوت الجيب (الوحيد) إلى العالم الخارجي.
فسربرينتسا لم تغطها وسائل
الإعلام الأجنبية أو المحلية".
راديو الهواة، كان الرابط الوحيد بين الناس المحبوسين في سربرينتسا و اهلهم وابنائهم في الخارج حتى اليوم الأخير.
يقول إبرو زهيروفيتش أحد الإعلاميين في سربينتسا: " في هذه الصورة: التوأم سيد وسيناد داوتباسيت، خليل محمدوفيتش ،إبراهيم بيسيروفيتش، نجاد أوميروفيتش إبرو زاهيروفيتش، عابد زوكيتش. لسوء الحظ، لم يتمكن أفضل الأخوين التوأم سيد وسيناد داوتباسيتش من الوصول إلى الأراضي الحرة. رحمهم الله."
Sead i Senad Dautbašic
Halil Mehmedovic
Ibrahim Becirovic
Nedzad Omerovic
Ibro Zahirovic
Abid Zukic
|
صورة جمعة لإعلامي راديو هواة سربرينتسا من إعداد إبرو زهيروفيتش @ Ibro Zahirovic
|
|
صورة نينو من فيديو تصوير إبرو زهيروفيتش @ Ibro Zahirovic |
هاجرة الأم تعلق: "لكن العالم كله يعرف صرخته من سريبرينيتسا".
"صوت
سريبرينيتسا". كان يعلن دائما عن تزايد عدد اللاجئين، والمجاعة التي
وصلت إلى أبعاد مميتة، والوفيات الناجمة عن الأوبئة والكآبة التي حلت على
المدينة مع اقتراب صيف عام 1995. منذ ما يقرب من عامين ونصف، كان يجلس أمام
الميكروفون كل يوم تقريبا ويواصل كفاحه باستخدام السلاح الوحيد الذي كان
بحوزته. كان لاجئا حبيسا
مع خمسين ألف من اللاجئين المعدمين بلا مصدر رزق أو رعاية ومحبوسين في هذا الجيب، تحت مسمى المناطق الآمنة من
1993، حتى سقوطه بيد الصرب وتواطؤ القوات الهولندية والامم المتحدة في
يوليو/تموز 1995.
كان نينو صوت اللاجئين في سربرينتسا إلى العالم. كان صوت سربرينتسا الذي قتله الصرب. على الأرجح بعد الحادي عشر من يوليه، عام 1995.
فيديو قصير من صفحة جائزة نينو 1993:
ونشر له كتاب بعد وفاته. يحمل نبرة من الحزن وبصيص من الأمل. وجدت ورقة قديمة كان
كتبها في مارس 1993.
ولأنه عايش المدينة المحبوسة تحت مسمى "منطقة آمنة" فإنه يصف الظروف
المعيشية البائسة والفقيرة لخميس ألف لاجئ في سجن مفتوح تحت عيون الامم المتحدة
بدعوى حمايته حتى يوليه 1995. والتساؤلات الفلسفية لشاب يعيش الحرب والموت والفقر يوما بعد يوم لأنه مسلم بينما العالم يتفرج عليه ويسمح بقتله يوما بعد يوم.
سريبرينيتسا، 10
يوليو 1995
في العاشر
من يوليو/تموز 1995 حين
سلمت الأمم المتحدة، وبشكل أكثر دقة الكتيبة الهولندية، المنطقة المحمية إلى أيدي
المجرم راتكو ملاديتش. بنبرة أكثر يأسا مما كان عليه في
الأيام السابقة كانت
آخر استغاثة وقال: "سربرنيتسا تتحول إلى أكبر مسلخ.. يجلبون باستمرار القتلى
والجرحى إلى المستشفى. من المستحيل وصفها. هل سيشهد أي شخص في العالم المأساة التي
حلت بسربرينيتسا وسكانها؟
(( سريبرينيتسا
تتحول إلى أكبر مسلخ. يجري سحب القتلى والجرحى باستمرار إلى المستشفى. من المستحيل
وصفها. في كل ثانية، تسقط ثلاث مقذوفات قاتلة على هذه المدينة. ويجري حاليا نقل
17 قتيلا و57 مصابا بجروح خطيرة وطفيفة إلى المستشفى. هل يمكن لأي شخص في العالم
أن يأتي ليرى المأساة التي تحدث لسريبرينيتسا وسكانها؟ وهذه جريمة شنيعة ارتكبت ضد
السكان البوشناق في سريبرينيتسا. السكان في هذه المدينة يختفون. سواء كان أكاشي (الممثل الشخصي للأمين العام حينها) أو بطرس غالي (الأمين العام للأمم المتحدة حينها) أو أي شخص آخر وراء ذلك، أخشى أنه لن يكون مهما بالنسبة لسريبرينيتسا). قال نينو كاتيتش في التقرير
الأخير لراديو وتليفزيون البوسنة والهرسك RTV BiH.
عندما
أنهى الشاب البث ولم يتكلم مرة أخرى، كانت النداء الأخير، حين انقطع بث إشارة
الراديو.
11 يوليو 1995:
تتذكر هاجرا،
والدة نينا، أن آخر مرة رأت فيها ابنها كانت في 11 يوليو/تموز. قال لها: "أمي، أنت ووالدي تذهبان إلى بوتوتشاري ، وسأذهب مع أصدقائي عبر الغابة إلى
توزلا."
أمضى الوالدان
الليل في إحدى القاعات مع حوالي 5 آلاف شخص، ليتم فصلهما في الصباح عند دخول
ناقلات مختلفة. بعد ذلك، لم ير أحد نينا مرة أخرى.
بعد ذلك، لم
يعد هناك اتصال بالمدينة حتى من رئاسة البوسنة والهرسك آنذاك. فانطلق نينو
وزملاؤه، التوأم سيد وسيناد داوتيباسيتش، اللذان قدما من سريبرينيتسا، وحاولوا الهرب من قبضة الصرب عبر غابات بودرينيي. لكنهم لم يصلوا إلى الأراضي الحرة. لاحقا، دُفِن الأخوان داوتباسيتش في مركز
بوتوتشاري التذكاري بعد الحرب، بينما لم يُعثَر على رفات نينو.
جرى التعرف على
تسعين بالمائة من رفات زوجها، يونوز (يونس) في عام 2005. اكتشفت أنه قُتل في
كوزلوك، على ضفاف نهر درينا.
رحلة عذاب عبر
البحث الطويل:
قيل لها أن
ابنها شوهد في آخر مكان هنا. ثم قيل لها إنه كان جريحا...؟!
لكنه لم يصل لأي مكان، فقد انفجرت قذيفة من
الصرب، ورحل. لم تعرف الأم مثل بقية الأمهات مصير ابنائهن لوقت طويل. لا أحد يعرف
أين اختفى نحو عشرة ألف رجل وصبي في أقل من أربعة أيام. ظن الجميع أنهم في مراكز
اعتقال تحت الاستجواب. لكن أحدهم لم يظهر. مر أسبوع، بدأت الأخبار تتوالى تباعا من
نذر قليل من الناجين الذين أبلغوهم بمصير رفاقهم. لقد قتلهم الصرب جميعا. أين
الدليل؟ أين الجثث؟ أين المقابر؟ لا أحد يجيب. كان على الأمهات أن يكافحن لعقود
حتى تحصل على ما تبقى من رفات الأزواج والآباء والأبناء والأخوة. مهمة ثقيلة
للغاية. لكن هذه الأم لم تحصل ولا على عظمة واحدة من رفات ابنها! كانت تقول: لو
أني فقط أحصل على عظمة واحدة من بنان ابني؛ لأدفنه وأستريح!
تقول إن آخر
كلماته هي ما تصحو عليها كل يوم ترن في أذنيها.
هاجرا تشاتيتش
تستمع إلى كل المعلومات الجديدة من عمليات استخراج الجثث، وتذهب إلى المشرحة حيث
توجد رفات سكان سريبرينيتسا المقتولين، وتنتظر نتائج تحليل الحمض النووي من أجل
إبلاغها أنهم عثروا على رفات ابنها (نينا).
كلما يخبرها شخص
ما بمعلومة عن آخر مكان شوهد فيه ابنها، تذهب وتبحث عن أي بقايا بشرية مهما كانت
خطورة المكان. لدرجة أنها ذهبت في مكان ملغم مرة وانتظرت حتى نزعت الألغام وآثار الحرب في مكان آخر. تمر الأيام، والنهاية؟ لم يُعثر على ابنها. إن صحتها تتدهور يوما بعد يوم.
يعرف الصرب جيدا
أين دُفِنت الجثث. ويعرفون القبور الثانوية والثالثية التي نقلوا إليها الجثث
المختلطة بالجرافات فتقطعت أوصالها وتمزقت. وتسبب في أن تكتشف العظام لشخص واحد
في عدة أماكن متباعدة. وربما هناك جثث دُفِنت في صربيا، حيث لا حد للظلم. يرفضون
الإدلاء بأي معلومات، بل إنهم حتى اليوم ينكرون ما حدث رغم الدلائل والفيديوهات المسربة والاعترافات والشهادات. ورغم المحاكمات الدولية، لكنهم لا يتنازلون
أبدا عن العناد والإنكار. فقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد حقا.
تبحث الأم هنا وهناك. تقف مع نابش القبور والأراضي، تظفر بجمجمة، تقربها منها وتقول ربما هذه
جمجمة ابني؟! تأخذها إلى مركز التعرف على المفقودين- رغم خطورة ما تفعله- يأخذون
العينات اللازمة لمطابقتها مع حامضها النووي. تنتظر، تدعو الله، تتألم. في
النهاية، الجمجمة ليست لابنها.
|
Hajra Catic visits the grave of her husband, who was shot in a mass execution and whose body was found buried under a rubbish tip in a nearby town. The remains of her son Nino have yet to be found. Photograph: Dado Ruvic/Reuters |
حياة حزينة لكنها تمضي ولا تعرف اليأس:
لم تفكر كاتيتش أبدا في مغادرة
سريبرينيتسا، وهي تعتقد أنه مع الاستثمار، سيعود الشباب البوشناق ويعيدون الحياة
والازدهار إلى مسقط رأسها. وهي الآن قائدة لجمعية أمهات سريبرينيتسا، ويشاركن في
مسيرة احتجاجية في 11 من كل شهر للمطالبة بالعدالة لضحايا المجزرة بلا ملل. ا
|
الأم تنتظر نتائج الاختبار لمعرفة هل الجمجمة تعود لابنها أم لا؟ |
"يجب أن أبقى مشغولة، ويجب أن نستمر في الحديث عن هذا، حتى لا ينسى العالم، لو كان الصرب يعرفون مقدار القلق والضوضاء التي سنصدرها
نحن النساء، فمن المحتمل أن يكونوا قد قتلونا أيضا في 1995".
2020، شيء من
التكريم والذكرى، سلوى للقلب الحزين
وأعربت هاجرا
تشاتيتش، عن ارتياحها لإطلاق جائزة تحمل اسم ابنها. قالت: "اعتقدت حقا أن
نينو قد نُسي، لكن هذا ليس بفضل الشباب الذين أنظر إليهم كأبنائي"
قالت أمينة
هودزيتش ، إحدى المبادرين لفكرة إنشاء هذه الجائزة: "إن واجبنا جميعا،
كصحفيين في المقام الأول، هو الكتابة والتسجيل والتحقيق. دعونا لا ننسى أبدا ولا
ندع الآخرين ينسون كل ما حدث"
تقول إن بعض العمال الصرب يأتون أحيانا لإصلاح
شيء ما في بيتها، لكنهم يتجنبون الحديث عن الحرب أو النظر إلى الصورة المعلقة حيث
ابنها وزوجها. ذات مرة، جاءها أحد
الصرب، مع ابنه لإعداد الإنترنت، نظر إلى الأعلى وقال: "يا إلهي، كنت أعرف
هذا الرجل". كان يعمل في مصنع مع زوجها قبل الحرب".
|
صورة نينو (ناهد تشاتيتش) |
تكريم متأخر
وفي عام 2019،
فكر بعض الصحفيين في إنشاء جائزة باسمه لإنقاذ اسمه من النسيان خاصة صرخته الأخيرة
من سربرينتسا. جاء في موقع جمعية "أن تكون صحفيا":
(صوت لا يمكن لأي إنسان أن يظل محصنا ضده، خاصة
حتى صرخته الأخيرة من سريبرينيتسا. هذا الصوت لا ينسى. إنه يثير مليون شعور ويخلق صورا وحالات رعب حدثت لسريبرينيتسا. يجبرك على الرد، لفعل شيء حتى لا ينسى.
لذلك، من واجبنا نحن الصحفيين ألا ندع اسمه يقع في غياهب النسيان. لا
يستطيع.
النهاية:
لسوء الحظ، لم تتحقق رغبتها، وكثيرا ما كانت تخبر وسائل
الإعلام أنها تعاني من نقص المعلومات حول المقابر الجماعية في البلاد، مما زاد من
تعقيد العملية. كرست حياتها كلها تناضل مثل كل امهات سربرينتسا من أجل الحقيقة
والعدالة للضحايا، كانت نشطة حتى آخر أيامها كانت تأمل أن تطمئن قبل وفاتها إلى أن سيعرف شخص ما على الأقل أن ابنها
موجود، ويكون هناك قبر على الأقل له".
"كانت هاجرة مقاتلة. سعت بشجاعة لتحقيق العدالة للناجين من الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا ولجميع عائلات المفقودين. للأسف، لم يتم العثور على ابنها الصحفي نينو. قالت كاثرين بومبيرجر ، المديرة العامة للجنة الدولية لشؤون المفقودين، إننا نكرمها هي والناجين الآخرين وسنواصل بذل كل جهد للعثور على الضحايا الباقين.
رحلت هاجرة في
نوفمبر عام 2021، ولما تنل ما تريد من أن تجد ولو عظمة واحدة من رفات ابنها
لتدفنه دفنا كريما. رحم الله العائلة التي التاعت لسنوات بسبب الصرب. رحمها الله.
Posljednje javljanje Nine Ćatića: Srebrenica se pretvara u najveću klaonicu (klix.ba)
Srebrenica 20 years on: 'Every year I think this is the year I will bury my son' | Srebrenica massacre | The Guardian
Twenty Years On, Mother Of Srebrenica Journalist Still Searching For His Remains (rferl.org)