Translate

Wednesday, July 04, 2018

هل تذكرون أطباء سربرينتشيا؟

  إعداد وترجمة د/ إيمان الطحاوي


"على الرغم من أن الحرب قد انقضت، لكني لا زلت أحملها بداخلي و أعيش في تبعاتها".."نعم، لقد وضعت الحرب أوزارها، لكن الزمن لم يخفف الألم".."لقد تعلمت تدريجيا أن أتعايش مع هذا الألم على مر السنوات و أخيرا كان علي أن أخلق توازنا بين ألام الماضي التي لازلت أحملها، و الحاضر الذي أعيشه الآن".. " لقد خلقت نوعا من الفضاء السوريالي العجيب بين العالمين. فكلاهما لا يجتمع و لا ينفصل أيضا." 

" إن كان قدري أن أكون طبيبا أثناء الحرب، فقدري أيضا أن أكون شاهدا أتلو شهاداتي بعد هذه الجريمة".. "علينا ألا نصمت أبدا" " إننا حين نحكي قصصنا أثناء الحرب و المجازر، فإننا نوفي دينا لهؤلاء الذين قتلوا و لم يحييوا ليسردوا لنا قصتهم".." إننا بروايتنا و شهادتنا على الحرب و الانتهاكات و المجازر، نمنع مجازر مماثلة من الحدوث مستقبلا، سننقذ آخرين من أن يلقوا نفس المصير في المستقبل بطريقة ما" .." و بالنهاية، فإن مالا يتم كتابته و توثيقه يكون كأنه لم يحدث"
الدكتور إيلياز بيلاف - 2013  Dr Ilijaz Pilav


الطريق الطويل/طريق الموت:

في يوليه 1995، كان الخروج من بلدة سربرينتشيا صعبا..كان أطول طريق يمكنك ان تسير فيه لتنجو..طريق بدأه نحو 12-15 ألف رجل ذاقوا مرارة الحصار و الجوع في سربرينتشيا لنحو 3 سنوات..كانوا يبعدون عن أقرب مكان تحت سيطرة قوات البوسنة المسلمة بنحو 50 كيلومترا..و كان عليهم أن يسيروا على الأقدام منهكين في هذا الطريق سيرا على الأقدام و حاملين جرحاهم و العجائز و محملين بفزعهم تحت شمس يوليو الحارقة. كان الدكتوربيلاف واحدا ممن رحلوا..كان عليهم أن يصارعوا الموت وسط التلال و الغابات جراء طلقات المدافع و الغازات المهلوسة التي يطلقها الجنود الصرب بين الحين و الآخر..لقد استطاعوا الفرار من سربرينتشيا في الواحدة ظهرا يوم 11 يوليه 1995 حيث كانت القوات الصربية على بعد مئات الأمتار من المستشفى. و أصر د/ بيلاف رغم تعنت القوات الأممية على إخراج الجرحى معه و أن لا يتركهم وراءه في سربرينتشيا لاحتمال قتلهم على يد قوات الصرب.

 بعضهم وصل بعد أيام حيث وصل نحو 3500 رجل في 16 يوليه 1995 إلى توزلا..آخرون ضلوا الطرق و لم يصلوا إلا بعد أسابيع..و بعضهم استسلم للصرب أو قبض عليه و قتل في الطرق وسط الغابات..بعضهم مات في الطريق. وآخرون مفقودون حتى الآن. 


لا يزال يتذكر السير بين القصف، و الماء المسمم، و نيران القناصة و الألغام. يتذكر و يشهد على مجزرة، قام بها الصرب في كرافيتشا. حيث امتلأ الطريق أمامه و خلفه بالقتلى و المصابين  كانوا نحو 500-1000 مصاب و قتيل. حاول التأكد أن من لا يستطيع السير من المصابين يتم حمله و نقله.. "كان الأمر مرعبا لكن على الأقل استطعنا إنقاذ حياة بعض الجرحى." حين يتذكر الأمر يشعر بالفزع و تتغير ملامح وجهه كأنه حدث بالأمس القريب.

مسيرة السلام 2005:
أراد الدكتور بيلاف أن يحيي ذكرى الرفاق و الأقارب ممن ماتوا و ضحوا في هذه الرحلة فأنشأ مسيرة السلام في 2005..و التي كانت تعتبر في 1995 مسيرة الموت المحدق بالفارين من المجزرة إلى المجهول. حيث لم يكن معروفا لديهم أية جهة محددة يسيرون فيها،  و لا يعرفون هل لازالت تحت حكم القوات البوسنية أم سقطت مثلما سقطت سربرينتشيا بيد الصرب؟

لم ينسى الطبيب الطريق وسط حقول الألغام و لم ينسى أنات الجرحى يسمعها في الظلام و هو لا يستطيع أن يفعل لهم شيئا. 
و لم ينسى أخاه الذي كان يسأله عن معنى الحياة و الموت..لم يستطع أن يجيبه، فلم يعد هناك معنى لأي إجابة حينها..افترقا لعل أحدهم يحظي بفرصة النجاة..لكن أخاه ذهب إلى قاعدة بوتوكاري، و لم يوقفه أخوه  حينها..فلم يكن أحدهما يعلم أين طريق النجاة في هذا الموقف الحرج..و مات أخوه، و عاش هو..لا يزال السؤال يلح على ذهن الدكتور بيلاف كل يوم: هل فعل كل ما بوسعه حقا؟ هل كان هناك ثمة تصرف آخر يستطيع أن يفعله؟ كان شعورا صعبا حين فر إلى توزلا، شعور من لا يملك أملا لكنه يحاول و لا يستسلم..للحظات بكى هذا الطبيب الجراح القوي..و كشف لنا عن قلب محطم لسنوات. تغيرت نبرة صوته و كأنها تحمل ألام الألاف ممن قتلوا و كأنه يتحمل وحده مسؤلية و ذنب لا يد له فيه..و حين وصل لخط الأمان ، لم يعد يشعر بالخوف.. ربما صار شعورا باللاخوف و اللا أمان أيضا. فماذا سيحدث له أكثر مما شاهده من أهوال. لم يعد يستسلم للشعور بالفزع.. لكنه أيضا لم يشعر بالسعادة حين وصل و نجا بحياته مع آخرين..و أي سعادة تلك و هناك الألف قتلوا و فقدوا و منهم أخوه الأكبر..  يقول إنه لا يدعي البطولة المطلقة..لكنه كان صامدا حقا و بقوة لسنوات.. 

شارك في مسيرات السلام و واصل زياراته لمقبرة بوتوكاري حيث دفن ضحايا مجزرة سربرينتشيا..و هذا العام في 13 يوليه 2018، سيقلي كلمة في لندن في ذكرى المجزرة.

تعريف بالطبيب البطل:
ولد د/ بيلاف في 1965. بدأ دراسته الطبية في سراييفو و بعد تخرجه قدم له مشرفه عملا طبيا في سراييفو كجراح..لكنه قرر أن يعود لبلدته الجميلة حيث الحياة الهادئة في سربرينتشيا على الحدود الصربية البوسنية..ظن أنه لن يحتاج للعمل في سراييفو كجراح..لكن سرعان ما بدأت الحرب و احتاج مضطرا للعمل في سنوات الحرب كطبيب وجراح أثناء خدمته العسكرية. بعد الحرب، صار جراحا ماهرا و مميزا في عمله و لديه العديد من المنشورات العلمية في مجال جراحة الصدر.

بعد حصار لنحو عام، أعلنت سربرينتشيا مدينة آمنة تحت حماية قوات حفظ السلام الأممية مع بلدة زيبا ZEPA  في عام 1993.  لكنها كانت محاصرة في نفس الوقت. لم يكن قد أكمل د/ بيلاف عامين من التدريب بعد التخرج و عمره 28 عاما..يعمل بلا خبرة كبيرة و بلا معدات و لا أدوية تقريبا (خاصة المضادات الحيوية و مسكنات الألم و أدوية التخدير)..و بلا رفاق مدربين..كان د/ بيلاف بينهم طبيبا و عسكريا في ذات الوقت حيث كان يؤدي أثناء خدمته العسكرية. أخبره القائد ناصر أوريتش أن عمله الطبي مقدم على العسكري لان القائد العسكري إذا مات من المكن أن يحل محله من يليه، لكن الطبيب لا..في هذه الأوقات العصيبة كان يعالج الجرحى من مصابي الخطوط الأمية في الحرب و كان لا بد أن يتوجه ليكون طبيبا بالمستشفى الوحيد مع رفاقه الخمس. في لحظات حرجة، كان عليه أن يختار سريعا فإن شاء هرب و تنصل من المسؤلية و إن شاء بقى و تعرض للخطر مع رفاقه الخمس..خمس أطباء فقط عليهم أن يعالجوا جرحى و مرضى بكافة التخصصات في مدينة مغلقة على نحو 42 -50 ألفا معظمهم مهاجرين..تدريجيا، اعتاد الأطباء الضربات و واصلوا العمل تحت القصف لدرجة أن قذيفة داخل غرفة العلميات لم توقفه عن إتمام الجراحة التي كان يقوم بها فانتظر حتى انقشع التراب التي خلفته القذيفة ليكمل خياطة الشريان في جراحة لمصاب في الذراع و الوجه من أثر قصف سابق. . قام بعمل 3500 جراحة أثناء سنوات وجوده في سربرينتشيا.  


   
و كانت أول المساعدات الطبية من طبيب مقدام (د/ ندرت مويكانوفيتش) Dr Nedret Mujkanovic من توزلا. حيث قام بإحضار المعدات و الأدوات الجراحية اللازمة لأصدقائه الأطباء المحاصرين في سربرينتشيا. قام بتهريبها سيرا لمدة أسبوع متخطيا الألغام و مرمى نيران الجنود الصرب ليدخل سربرينتشيا في أغسطس 1992. و قضى نحو 8 أشهر في سربرينتشيا، قام فيها ب 1300 عملية جراحية. و تم منحه أعلى تكريم من الجيش البوسني لاحقا (الزنبقة الذهبية).


يقول الدكتور بيلاف: "لقد كان علي أن أقنع المصاب بأن يتحمل الألم لأطول وقت ممكن أثناء الجراحة مثل البتر مثلا أو جراحة في البطن..و أنا في قرارة نفسي أعلم أنني شخصيا لا أتحمل هذا الألم." كل هذا كان بسبب عدم وجود أدوية التخدير و التي لم تصل إلا بعد شهور من الحصار و بكميات قليلة. كان الأمر أشبه بعملية تعذيب يضطر لها الطبيب لينقذ المصاب و يقبل بها المصاب لينقذ حياته. كان المستشفى المحاصر بلا أدوية أو مستلزمات أقرب لمكان بدائي من القرون الوسطى أكثر من كونه مكان طبي في القرن العشرين. و تأخرت المواد المخدرة المستخدمة في تخدير المصابين أثناء العمليات الجراحية لكنها وصلت في قافلة لاحقة.

كان عدد المصابين يزداد مع القصف و انفجار الألغام يوما بعد يوم. و عليهم أن يتعاملوا- الأطباء الخمسة الذين بقوا من أصل 45 طبيبا كانوا في البلدة قبل الحرب- مع كل هذه الأعداد و الجراحات بخبرتهم البسيطة و بلا إمكانيات تقريبا! كان المصابين متراصين في الطرقات و الأطباء يعملون دون توقف لأيام بلا راحة. التحق بهم طبيب و تخرج آخر وقتل ثالث -  Dr Nijaz Dzanic- أثناء قصف جوي في صيف 1992..كان عليهم أن يخدموا- الخمسة- نحو  50 ألف مدنيا ممن يعيشون في سربرينتشا محاصرين من 1992 حتى 1995. عليك أن تعمل لأيام متواصلة لا تعرف فيم ليل و لا نهار و ربما تنام لساعات قصيرة لتواصل العمل.

لقد اندهش أطباء بلا حدود من العمل وسط نقص المستلزمات و المعدات في بداية الحرب..و فعلوا ما بوسعهم لإدخال الإمدادات الطبية (و التي تفنن الصرب في عرقلة دخولها حتى مع القوات الأممية عدة مرات). كان هذا بعد شهور من عزل سربرينتشيا..و كانت مساعدتهم محل تقدير كبير. 

المجزرة:
و أخيرا، جاء اليوم الحاسم.. حين بدأ الصرب في دخول سربرينتشيا...الآن، عليك أن تنقل المصابين من المستشفى قبل أن تصل قوات الصرب و التي لم تتوان عن اقتحام  المستشفيات و قتل الجرحى. عمل د/ بيلاف رفقة زملائه الأطباء بالمستشفى متواصلا لا ينام إلا ثلاث ساعات يوميا لمدة 5 أيام من 6 يوليه حتى 11 يوليه..كان القصف كل ساعة تقريبا على منتصف البلدة و مناوشات على أطراف البلدة. رفض أن يعتبر هذه هي النهاية، حاول إرسال رسالة باتصال إذاعي للقوات البوسنية (ليخبرهم بوصول قوات الصرب للبلدة) عن طريق مكتب البريد، فجاءه الرد أن القائد الآن يستريح. ربما كانت القوات الصربية تتحكم في الإشارات حينها. لا شيء لم يفعله الصرب..و رأى أنه لا أمان أو تعويل على القوات الأممية. توجه لقائد من كتيبة القوات الهولندية المسؤولة عن حماية المدنيين في سربرينتشيا طالبا حماية المستشفى و فتح البوابة و إزالة السلك الشائك ليخرج المصابين. رفض القائد طلبه بحجة أنهم غير مهيئين للتعامل مع الجرحى..ثم أجابه القائد أنه لا علاقة له بالصراع بين المسلمين و الصرب..لم يكن هناك وقت ليناقشه فهدده بفتح البوابة بالقوة..و أخيرا، سمح له القائد الأممي بإخراج الجرحى من المستشفى قبيل وصول قوات الصرب..هذا التصرف و الرد الأممي يلخص رد كل مسؤولي الأمم المتحدة حينها.. و حين صرخ أحدهم الصرب دخلوا البلدة، كان على الأطباء الخمس أن يختاروا من يستطيع من المصابين السير و من يجب حمله مع بضعة أدوية و محاليل بسيطة ليبدأ رحلة الخروج من سربرينتشيا. رحلة الطريق الطويل.



أحد جنود هولندا من القوات الأممية قال مدافعا عن نفسه حين أدين بالتورط و التواطوء مع قوات الصرب قبيل مجزرة سربرينتشيا. قال إنه من الصعب تحديد من هم الرجال الطيبون و من هم الأشرار..و بناء على تبريره، فهو لم يكن مخطئا حين تراخى أو تواطأ مع قوات صربيا حين تسلمت بلدة سربرينتشيا التي كانت تحت حماية الأمم المتحدة و ارتكبت المجزرة.. 


**في كتابها (مشفى حرب: قصة حقيقية للجراحة و البقاء) المنشور في 2003..تعرض لنا الطبيبة و الصحفية الأمريكية (شيري فينك) الفائزة بجائزة بوليتزر تجربة أطباء خمس احتجزوا مع نحو 50 ألفا من رجال و نساء و أطفال في أبريل 1992 في سربرينتسيا حتى 1995. و كان عليهم أن يكونوا الملجأ الطبي الوحيد للجرحى دون وجود جراح واحد بينهم في مستشفى صغير معد فقط لخدمة بلدة صغيرة يسكنها أقل من عشرة ألاف فإذا بها فجأة ملجأ لنحو خمسين ألفا و لسنوات.. و بمساعدة من ثلاثة أطباء آخرين أحدهم من أطباء بلا حدود..و الآخر جراح من البوسنة كان عليه أن يعبر الطرق  و حقول الألغام ليصل لهم..استطاعت هذه المجموعة الصغيرة أن تعبر أزمة استمرت لأربع أعوام و نصف..كانت على أشدها حين احتل الصرب سربرينتشيا في يوليه 1995. و كانت أصعب الأوقات المصيرية حين يقرر الطبيب أن هناك أمل من أن  يعالج هذا الجريح و أن عليه أن يترك ذاك الجريح ليموت. 

كان الأمل في ألا يحدث هجوم بسبب وجود القوات الأممية و أحد أطباء منظمة أطباء بلا حدود..كان أملا خادعا لم يصدقه حتى من تعلقوا به..فلا الأمم المتحدة حمتهم و لا الصرب خافوا من سوء صورتهم أمام العالم منذ بدءوا الحرب. اعملوا آلة القتل و كانت مجزرة سربرينتشيا. 

No comments:

To shoot an Elephant!