Pages

Tuesday, July 19, 2022

ساد الصمت، و خرج طفل من كومة الجثث صائحا: "أبي، أبي، أين أنت؟" #srebrenica

By Dr Eman Tahawy 
بقلم د. إيمان الطحاوي 

تنبيه: تحتوي هذه القصة على تفاصيل قد يجدها بعض القُراء مؤلمة.

المكان: قرية بالقرب من مدينة سربرينتسا، في دولة البوسنة والهرسك.

الزمان: 14 يوليو 1995.
ICTY

الحدث: أسر جنود الصرب (لواء زفورنيك) رتلا من الرجال المدنيين الذين فروا بعد سقوط سربرينتسا، أو الذين انفصلوا عن النساء والأطفال في بوتوتشاري بالقرب من سربرينتسا. نقلهم الصرب إلى مدرسة في قرية (أوراهوفاك) بالقرب من (زفورنيك)؛ حيث صار المكان ساحة إعدام جماعي لمسلمي البوسنة (البوشناق). كان الصرب يقتلونهم على مجموعات. ثم يذهبون ويفتتحون في الغناء والاستراحة قبل أن يعودوا ومعهم مجموعة أخرى ليشرعوا في إطلاق النار عليهم. وهكذا قتلوا نحو ألف مسلم في ساعات.

استخدم أعضاء من سرية الهندسة التابعة للواء (زفورنيك) معدات ثقيلة لدفن الضحايا في مقابر جماعية بموقع الإعدام. لاحقا، كُشِف عن إزالة الجثث من القبور الأولية وإعادة دفنها في مقابر ثانوية على بعد عشرة كيلومترات تقريبا. عُرِف ذلك عبر تحليل الطب الشرعي لعينات التربة، مع الأدلة والصور الجوية المقارنة قبل وبعد المجزرة.

كان من بينهم صبي يبلغ من العمر سبع سنوات، اسمه (فخر الدين مؤمينوفيتش) حيث أنقذه سائق سيارة الإسعاف يعمل في جيش صرب البوسنة. إنها إحدى أكثر الشهادات إثارة للصدمة حين سُجِّلت في محكمة لاهاي. فهي تتحدث عن إطلاق النار على هذا الصبي، ثم نجاته لاحقا. مازالت هذه القصة تثير المشاعر العميقة.


@ ICRC #AP

الطفل: " فخر الدين مؤمنوفيتش"

المنقذ: " الشاهد المحمي هو سائق إسعاف في لواء زفورنيك في (جيش صرب البوسنة) وشاهد عيان على إطلاق النار على الأسرى البوشناق في بلدة أوراهوفاك.

دعونا نعيش هذه الدقائق مع شهادة السائق والطفل.

لنبدأ بشهادة سائق الإسعاف الصربي؛ إذ تعادل شهادته - في ميزان العدالة- شهادة العشرات من البوشناق. فالفضل ما شهدت به الأعداء. كونها فريدة ومؤثرة، فستبقى في ذاكرة الكثيرين.

يقول الشاهد المنقذ:

@YOUTUBE Footage of mass killing in Srebrenica 1995

" ثم حدث شيء فظيع لا يمكن تخيله. فحتى هذا اليوم، لا أستطيع أن أنساه، ولن أنساه أبدًا. أظل أفكر فيما يمكن أن يفعله إنسان بآخر. بغض النظر عن كم الرعب الذي شعرت به في العديد من الأفلام والأفلام الوثائقية وما إلى ذلك، بغض النظر عن عدد كتب الرعب التي قرأتها، وعن الكتب التي تجعلك تبكي مصير شخص آخر. دعني أخبرك، هذا لا يقارن بما رأيته هناك؛ إذ أصبت بمرض السكريّ من هول ما رأيت.

وسط تلك الكومة من التي تتراكم فيها الجثث ويتصاعد منها الدخان. التي لم تعد تبدو كأجساد بشرية. كانت مجرد قطع لحم، فجأة ظهر إنسان. أقول إنسانًا، لكنه كان، في الواقع، صبيًا في نحو السادسة من العمر. إنه مشهد لا يصدق. لا يصدق. يخرج إنسان ويسير باتجاه الطريق، الطريق الذي يقف فيه الجنود، يطلقون النار بالبنادق الآلية، الذين كانوا ينهون ما بدءوه (القتل). هذا الطفل يتجه مباشرة إليهم. وهو يتألم.

جميع الجنود ورجال الشرطة الذين وقفوا على هذا الطريق، الأشخاص الذين تعلموا القتل جيدا، أنزلوا أسلحتهم فجأة وابتعدوا. كان الصبي مغطى بأجزاء من أحشاء القتلى الآخرين. صاح الطفل: "بابا، بابا، بابا". المسلمون (البوشناق) ينادون الأب (بابا).. وقف ضابط أمام الجنود، أعتقد أنه عقيد، مخاطبا الجنود بنبرة قاسية: "ماذا تنتظرون، اقتلوه!" فرد عليه الجنود الذين كانوا منذ لحظات سعداء بالقتل: سيدي لديك مسدس، فلم لا تقتله (أنت)؟ كان الجميع عاجزا عن الكلام بعدئذ. ثم خاطب الضابط جنوده: "اصطحبوا هذا الطفل إلى الشاحنة، ثم أحضروه مع مجموعة أخرى، لنتخلص منه". أمرهم الضابط بنقل الصبي إلى مركز اعتقال قريب، وإعادته لاحقًا إلى مكان الإعدام وقتله في جولة جديدة من قتل البوشناق.

يستكمل الشاهد:

كان الطفل مصدوما، وظل يردد: "بابا، بابا، أين أنت؟" أخذ الجنود الطفل ووضعوه في الشاحنة وهو ينزف. ثم قفزتُ، وقلتُ للجنود: 'اسمعوا، سأصحبه إلى شاحنتي، وسأعزف له الموسيقى لإلهائه عما حدث. سأُدير له المذياع. صعدت إلى الشاحنة وأشعلت الضوء، وأدرت المذياع، فوجدت محطة الإذاعة المحلية. قلت للطفل: تعال، تعال إليّ. انظر، لديّ ضوء، وموسيقى. فجأة، أمسك الطفل يدي. لا أريد أن يشعر أحدكم بما شعرت به. كنت معروفا بأنني رجل قوي وصعب المراس. لكنني لا أريد أن يتعرض أي شخص لما شعرت به وهو يقبض على يدي. لقد ُصِدمتُ بقوة قبضته على يديه".

"عندما أحضرته إلى قسم الجراحة، أمسك يدي، وقال لي: بابا، لا تدعهم يأخذونني بعيدًا، من فضلك". وحتى يومنا هذا، يتردد صدى كلماته في أذنيّ.. وبينما يفحصه الطبيب، وينظفه من بقايا الأحشاء البشرية واللحم، شممتُ رائحةً كريهةً. لم أفهم كيف لم أشم تلك الرائحة النتنة عندما كنت أنقله بالشاحنة إلى المستشفى. لقد صُدِمتُ للغاية من الحدث برمته."

" أعلم أنني خاطرتُ بحياتي؛ لأخلص هذا الطفل. أيمكن أن يكون الأمر أسوأ من ذلك؟ لقد رأيت ذروته؛ فالذي قتل للتو كل هذا العدد من البشر فسيكون بالتأكيد مستعدا أن يقتلك".

أخذ الشاهد الصبي إلى المستشفى في زفورنيك، وهناك، نُقِل إلى قسم الجراحة؛ لإصابته بطلق ناري في يده وساقه. استغرق علاجه ثمانية أشهر تقريبا.

أعود إلى الطفل، حيث قال (فخر الدين مؤمنوفيتش) في شهادته في المحكمة، ثم في بيان لوسائل الإعلام لاحقا:

 الشاب فخرالدين مؤمنوفيتش


"في يوليو / تموز 1995، كانت أسرتي تعيش في قريتنا أوركوفيتشي شرقي البوسنة. ثم تفرّقنا عن بقية الأسرة في أحداث سربرينتسا. كنت وأبي في المنزل، حين طلب مني أن أعطيه مصباحا آخر محل المصباح الذي لا يعمل. ذهبتُ إلى النافذة لأرى شيئًا وسمعنا أحد الرجال البوشناق يصرخ أن التشتنيك (جنود ميليشيات الصرب) يقتربون من المنزل. أمرني والدي أن أتوارى تحت السرير، لكن جنود الصرب عثروا علينا وأخذونا إلى الخارج. عصبوا أعيننا بأوشحة بيضاء؛ لكيلا نرى وجهتنا، لكن ذلك يعني أن الموت سيأتينا قريبا. ركبنا الشاحنة، وسرعان ما سقط وشاحي فطلبت من والدي ربطه لي لكنهم لم يسمحوا لي، بل شدوه بقوة. مازلت أتذكر القماش المشمع الأخضر في الشاحنة. شعرت بالرعب حين قادونا لمسافات، ثم توقفوا فجأة في الغابة. أخرجونا من الشاحنة، وأمرونا بالاستلقاء. واستلقينا جميعًا على بطوننا في صف واحد. بدأوا في إطلاق النار علينا ".

يقول فخر الدين:

في لحظات: سمعت طلقات الرصاص، وسمعت أصوات القتلى وهم يتألمون ويحشرجون. شعرت بكومة من الجثث تسقط فوقي، وسقطت. كنت ملطخًا بالدماء والأشلاء. كنت أنزف، وأتلوى من الألم. لكنني لم أمت. صرختُ: "بابا..بابا أين أنت؟"  ونظرت ورائي ورأيت والدي ينازع الموت. صرخت: "بابا، لا تدعهم يأخذونني". سألتهم إن كان يمكنه الحضور معي، فقيل لي لا. كان هذا آخر ما رأيت من أبي قبل أن ينقلوني إلى عربة المسعف، وأغادر المكان.

لم يتذكر فخر الدين من اسم منقذه إلا أن اسميه الأول والأخير صربي. وبالكاد، يتذكر فترة الشهور الثماني التي قضاها في المستشفى. بحث عمه "رامو مؤمنوفيتش" عنه لعدة أشهر، حتى وجده أحد نشطاء الصليب الأحمر الدولي في النهاية. ثم نُقل إلى مستشفى في توزلا. قال عمه إنهم حاولوا إخفاء حقيقة إصابة الصبي في المجزرة، فأقروا في خطاب خروجه من المستشفى، أنه عثر عليه في الغابة مثلما قال السائق الذي أنقذه. 
ومن العجيب، أن فخر الدين كاد أن يفقد حياته مرة أخرى في المستشفى في زفورنيك. وبحسب محققي لاهاي، فإن ممرضة أو ممرضتين كانتا تعملان في المستشفى في ذلك الوقت لم تكونا سعيدتين على الإطلاق لأنهما مكلفتان برعاية طفل مسلم من سربرينيتسا!. كان مستشفى زفورنيك مليئا بالجنود الصرب الجرحى، وفقدت إحدى الممرضتين شقيقها الذي توفي في وقت سابق في الحرب.

 في الفيديو، يمكننا رؤية الصبي في مقعد سيارة الجيب، منتظرًا بفارغ الصبر رؤية أخته الصغرى وعمته وعمه. في نظرته، ترى ذكرى والده الذي لم ينج من إطلاق النار. ينظر إلى عمته وكأنه يتذكر بها والدته التي رحلت في زمن الحرب في سربرينتسا بعد أن أنجبت ابنتها. كان هذا هو اللقاء الأول بين ذراعي أحبائه منذ شهور.

أحيانا، يعاني الطيبون رغم ما يقدمونه من لفتات إنسانية عظيمة:

الدنيا تقتل الطيّبين جداً، اللطيفين جدا والشجعان جداً بلا تمييز. تقتلهم بإنصاف.

إرنست همنجواي - وداعا للسلاح

يعلم فخرالدين أيضًا أن الرجل الذي أنقذه عانى جراء فعلته. رغم أنه كان أيضًا شاهدًا محميًا في محكمة لاهاي.


الطفل فخر الدين يلتقي أقاربه AP

قال مؤمنوفيتش: "بسبب ما فعله السائق معي، وبسبب وما أدلى به في شهادته ضد الصرب في لاهاي، فقد تنكّرت له أسرته طيلة حياته. ولم يحضر جنازته سوى القليل منهم". الآن، رحل عن دنيانا؛ لذا أود أن أقابل زوجته وولديه. إنهم يعيشون في فنلندا، بعدما عاشوا لفترة في روسيا. إذا التقيت بهم، فسأشكرهم وأخبرهم أن والدهم كان رجلاً عظيمًا وشجاعًا وإنسانًا. لقد أنقذ حياتي، ورجل أنقذ حياة واحدة، فكأنما أنقذ الناس جميعا. إذا أرادوا، فسأحتضنهم وأقبلهم، لأنهم إذا قبلوني، فسيكونون أصدقائي وعائلتي"، قال مؤمنوفيتش. يقول عمه رامو مؤمنوفيتش: "أود أن ألتقيهم. يتيح لك ذلك أن تدرك أن الخير في كل مكان في هذا البلد". ويضيف: "الصرب قتلوا والد فخر الدين في هذا البلد، لكنه أيضًا المكان الذي أنقذ فيه أحد الصرب فخر الدين".


الشاب فخرالدين مؤمنوفيتش


(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة -32.

شهادة الضحية والجلاد:

في وقت لاحق، أدلى فخر الدين مؤمنوفيتش بشهادته، بصفته شاهدًا محميًا في المحكمة في لاهاي، ضد المجرمين.

وبعد عقدين من التخفي، قرر أن يعلن أنه ذلك الصبي الذي نجا من إطلاق النار. "سأكشف عن اسمي وذاتي علنا. أريد أن يعرف الجميع ما حدث لنا، وأن يعرفوا من أنا. ليست هناك حاجة للاختباء، مثلما فعل الشاهد(السائق). ويقصد خوف السائق من انتقام الصرب"

شهادة فخر الدين عمل مؤثر وبطولي. أن تقف في محكمة لاهاي، وأن تنظر في أعين القتلة، بل وأن تعود إلى موقع الإعدام. أراد القدر أن يعيش فخر الدين؛ ليكون شاهدا على المجزرة.

وصف شهادة المحكمة:

الصمت يلف ساحة المحكمة. المجرمون السبعة في قفص الاتهام. والرؤوس محنية من هول ما تسمع، أم من خزيا من جرم ما اقترفت. حتى القاضي يجلس صامتا، ويلوّح بعصبية. كاد أن يبكي. يعلق: ذاك بدع من الشر، لم نسمع به من قبل، ولم يكن متأصلًا في البشر.


ICTY تجميع مفروغات طلقات الرصاص من موقع الإعدام الجماعي

من المحزن أن نستمع لقصة الناجي من المذبحة. فمن هو الناجي؟ الطفل أم المسعف؟

في الواقع، كلاهما ناج من هذه المجزرة. أما الطفل الذي كاد أن يكون ضمن الضحايا، لكنه نجا. ويكفيه الألم النفسي والضياع الذي خلّفته تلك الحرب لسنوات، بل تكفيه ذكرى الساعة الأخيرة من المجزرة حين مات أبوه أمام عينيه.


"وجدته نازيًا غير نادم ادعى أنه لم يتعمد أن يضر أبدًا بأي أحد شخصيًا، وقام فقط بواجباته كضابط."

-تعليق ابن عن أبيه الطبيب العسكري النازي جوزيف منجليه (ملاك الموت).

أما القاتل فهو الجندي الصربي/سائق الإسعاف. إنه ناج أيضا. لهذا أعجب منه حين قتل وشارك مباركا لما يفعله زملاؤه. وأعجب أكثر حين توقّف عن القتل، بل أقف أمامه مليا. أمام تلك النفس البشرية التي تقتل نفوسا بالمئات والألاف من المدنيين العزل و(شباب ومراهقين وشيوخا ونساء). ما الذي كان يدور في نفسه الشريرة لتقدم على تلك المجزرة طوعا؟ أي شهوة حيوانية تلك؟ حتى الحيوانات لا تفعل تلك المجزرة فتكتفي بفريستها التي تشبع جوعها فقط. كيف يعود لأسرته وأطفاله وبأي يد حانية يمسسهم، وقد قتلت للتو أبرياء مثلهم؟ وكيف يستقبله ابناؤه؟ وكيف ينظرون في عينيه؟ أيستقبلونه استقبال المنتصر في حرب شريفة، أم استقبال قاتل وضيع فتك بمدنيين عزل؟ فتخلص منهم حقدا أو شهوة أو بلا سبب! لا أحد يعلم ما يدور في النفوس الشريرة في تلك اللحظات العصيبة، مهما قرأت من تفاسير ودراسات نفسية. لكنه الحقد منشأ كل الشرور والآثام.

وما الذي أوقفهم حين شاهدوا خروج الطفل من كومة الجثث؟ إنه القدر. رسالة من الله ليتوقفوا ولو مؤقتا، ثم ليشهد بما اقترف زملاؤه في المجزرة لاحقا. فجأة عدل عما أمر به القائد، ثم هرب الطفل الجريح إلى مشفى.  ربما أراد أن يتطهر من هذه الآثام بشهادة حق في محكمة الأرض قبل محكمة السماء. ودفع ثمنها من إنكار قومه لفعلته (الشنيعة) إذ يعيبون عليه فعلته: كيف ينقذ طفلا من القتل؟ بل وكيف يشهد بما رأي وبالحق؟


مقبرة بوتوتشاري -مدفن ضحايا المجزرة


تأملت طلب الشاب من أهل الجندي الصربي أن يكونوا أهله. نعم، فكلاهما (القاتل والمقتول) ناج. نجا الطفل من الموت بلا إثم. ونجا الجندي من إثم القتل. نعم لقد شارك هذا السائق غيره في قتل ربما مائة نفس أو يزيد، لكنه وحده توقف وكفّر عما فعله بالشهادة. اعترف بذنبه صادقا. الاعتراف الصادق بالذنب هو الخطوة الأولى للعدل. أما الكبر والإصرار فلا يقودنا إلا لمزيد من القتل قد يمتد لعقود وقرون. هذا الجندي أوقف هذا الشلال من الحقد والإصرار والإنكار. لقد ترك لأسرته تاريخا مشرفا رغم إنكارهم لفعلته حتى بعد مماته. سيعلمون يوما ما. 

إنني أعجب من عدالة السماء وقد اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. إذ كيف ستتنازع على ذلك الصربي. يقول إبليس: إنه شارك في القتل بلا رحمة لأيام وقبلها لسنوات. شارك مباركا أو قاتلا أو مساعدا في المجزرة. لم يعصني ساعة إلا تلك الساعة المشؤومة التي خرج فيها الطفل من وسط كومة الجثث ملطخا بالدماء والاشلاء. فتقول الملائكة: لكنه عاد وتاب بكلمة في ساعة مباركة. كلمة حق أضافت شيئا من العدل على وجه تلك الأرض.

الشعور بالذنب:

يقول فخر الدين: إنني نجوتُ بتلك الطريقة، لكنني لم أسامح نفسي، طيلة حياتي، على وفاة والدي. كان قادرًا على الهروب مع عمي. لكنه قرر أن يظل معي؛ لنختبئ معا. زارني المعالجون النفسيون كثيرا؛ فتحسنت حالتي النفسية قليلا.

حياة صعبة:





كنت أعيش مع عمي وأسرته في معظم طفولتي، وبينما كنت في دار للأيتام لفترة من الوقت، كنت أزوره في عطلات نهاية الأسبوع، وأساعده في المزرعة. عاش فخر الدين ظروف معيشية صعبة، حيث تقاسم المنزل مع ثمانية أشخاص آخرين. كل من يعيش معه يعتبره عائلة. بعد عقدين من العناء، ساعدته حملة تبرعات لينتقل إلى منزله مع أخته في شتاء عام 2019. فخر الدين يخطط لبدء عمل تجاري قبل أن يتزوج. يقول: الآن أستطيع أن ابدأ في الحياة من جديد.

البحث عن الأمان النفسي:

لدي ذكريات سعيدة من ذلك الوقت من حياتي حين كان لدي أصدقاء وكان عمي يعتني بي ويغمرني بالدفء. المعيشة مع عائلة عمي وزوجته وابنائه الثلاث تشعرني بالأمان.  وأنا بحاجة إلى الأمان؛ لأتعافى. فما حدث في ذلك اليوم قبل سبعة وعشرين عاما مازال يطاردني. غالبًا ما أستيقظ في الليل أرتجف ولا أستطيع العودة إلى النوم. لا يمكنني أن أجبر نفسي على التفكير في إطلاق النار كثيرًا وإلا سأصاب بالجنون. إنه عبء كبير لأتحمله.

أذهب أحيانًا إلى النصب التذكاري في سربرينتسا لزيارة قبر والدي، لكنني دائمًا أتجنب ذلك الموعد في يوليو كل عام. أعرف أن الكثيرين يفضّلون هذا الموعد؛ ليتذكروا أحباءهم، ويزوروا قبورهم. لكنه يعيد إلى مسمعي صرخات الرجال الذين قُتلوا بينما نقلت بعيدًا.


عدت مرتين إلى نفس الموقع الذي قُتل فيه والدي. كل ما أريده من الحياة الآن أن أجد سترته. فأرتديها طوال الوقت؛ فأشعر بالقرب منه. لكنهم لم يجدوا إلا بقايا جثته، هيكلا عظميا، بعد عشر سنوات.

يقولون إن الأيام خير مداوٍ. ومع ذلك، لا زلت لا أشعر بالأمان. لا أحب أن أبقى وحيدا في المنزل المطل على الطريق. أشاهد النوافذ ليلا، وأنا خائف من ظهور شخص ما. مثلما أحضر هذا النظر عبر النافذة إلى إحضار جنود الصرب إلى منزلنا قبل سبعة وعشرين عامًا.

لقاء مستحيل بين الناجي والمنقذ:

قبل عشر سنوات في 2007، قدّمت أدلة حول تجربتي كشاهد في محكمة العدل الدولية في لاهاي. بشكل لا يصدق، شاهد آخر كان "مسعفي" - كان بإمكانه قتلي، لكنه أنقذ حياتي. سألته إن كان بإمكاني مقابلته. في الليلة التي سبقت لقاءه، لم أستطع النوم قط، لم يكن مسوحا لنا بذكر أسمائنا. كان لقاءا دون اجراءات محكمة أو تصوير. وبدأ كلانا في البكاء. كان الوضع مروّعًا.

أتابع، كل فترة، ما يكتب عن هذا الرجل. رأيته حزينا، لكنه يحاول كل مرة أن يعيش حياة جديدة، وأن ينسى. للأسف، لم ينجح في الهروب من هذه التجربة الأليمة حتى اليوم (2023)



خاتمة:
سلّطت مذبحة سربرينتسا الضوء على أسوأ ما في الإنسانية. اعتقدت ذات مرة أن جميع الصرب البوسنيين قساة القلوب، لكن هذا الرجل أثبت لي عكس ذلك. أظهر أن كل شخص لديه القدرة على أن يتعامل بشرف. وللأسف، بعض الناس يختار أن يعيش دون شرف. فلتكن قصة فخر الدين تحذيرًا لكل من يحلمون الآن بإشعال حروب ومعاناة جديدة في أي مكان. في الحرب، يموت جميع الناس بغض النظر عن الدين والعرق ولون البشرة. 

المراجع:

1- ترجمتي الخاصة لشهادات المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة. ICTY

2- ترجمة من مواقع إلكترونية باللغتين الإنجليزية و البوسنية.

تعريفات:

الشاهد:” الشخص الذي يُعاصر ارتكاب الجريمة، ويعاينها بأي حاسة من حواسه، سواء أكانت بالسمع أو البصر أو باللمس”.

الشاهد المحمي رقم 101: رمز للصربي الذي أنقذ الطفل. أعلن بنفسه عن هويته لاحقا.

ICTY المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا:” تعمل المحكمة على توفير الحماية للشهود والمجني عليهم وتشمل إجراءات هذه الحماية على سبيل المثال لا الحصر نظر الدعاوى في جلسات سرية وحماية هوية المجني عليهم”

جيش جمهورية صربسكا: جيش صرب البوسنة.

التشتنيك: ميليشيات الصرب.

البوشناق: مسلمو البوسنة.

أوركوفيتش. Urkovici

في قرية أوراهوفاك Orahovac village بالقرب من زفورنيك Zvornik

Zvornik Brigade, لواء زفورنيك في جيش جمهورية صرب البوسنة

احصائيات: 

وفقًا لبحث أجراه معهد الجرائم ضد الإنسانية والقانون الدولي بجامعة سراييفو، قُتل 826 طفلاً في سربرينتسا بين عامي 1992 و1995م. بينما في يوليو / تموز 1995 وحده، قُتل 694 طفلاً.

من تقرير الدائرة الابتدائية عن المجزرة:

"إن حجم وطبيعة عملية القتل، مع العدد الهائل من عمليات القتل، والطريقة المنهجية والمنظمة التي نفذت بها، واستهداف الضحايا ومطاردتهم بلا هوادة، والنية الواضحة-الظاهرة من الأدلة-للقضاء على كل رجل مسلم بوسني تم القبض عليه أو تسليمه يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه كانت إبادة جماعية".

"في سياق الحرب في يوغوسلافيا السابقة، وفي سياق التاريخ البشري، فإن هذه الأحداث لها أهميتها في نطاقها ووحشيتها."

No comments:

سوريا حرة Free Syria

 سوريا حرة Free Syria