Friday, February 19, 2021

عن رحيل طبيب القلب الانسان..

 كتبت د/ إيمان الطحاوي

منذ أيام، رحل عن عالمنا طبيب القلب الشهير (برنارد لاون) عن عمر يناهز 99 عاماً. في عام 1962، اخترع "لاون" جهاز تنظيم ضربات القلب، وهو جهاز يستخدم الصدمة الكهربائية لإعادة القلب إلى نظامه الطبيعي. كما كان من أول الأطباء الذين أكدوا على أهمية الحمية الغذائية و التمرينات الرياضية في علاج أمراض القلب. 

Bernard Lown
Dr Bernard Lawn 1921-2021

أما على الجانب الانساني، فقد بدأ اهتمامه بمسألة الحرب النووية منذ عام 1959 حين كان يستمع في إنجلترا لمحاضرة عن خطر الصراع النووي. كان يلقيها السير/ فيليب نويل بيكر - و كان للتو حاصلا على جائزة نوبل للسلام أيضا. بعدها، اجتمع الدكتور لاون بثمانية أطباء، لتنشأ بينهم مجموعة تسمى (أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية). يمر الوقت، و يؤسس مع زملائه (رابطة الأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية). و التي بلغ عدد أعضائها 135 ألفا من 41 دولة، منها روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية. كان هدفها وقف تجارب الأسلحة النووية و التوعية بآثارها المدمرة.  لهذا استحقت الرابطة جائزة نوبل للسلام في عام 1985. 

 و أترككم مع ترجمتي المختصرة لكلمته أثناء تلقيه هذه الجائزة.

"الأمل بدون عمل هو أمر ميؤوس منه. "

نحن الأطباء نحتج على احتجازالعالم كله كرهينة. نحتج على الزيادة المستمرة في المبالغة في القتل.  نحتج على توسع سباق التسلح إلى الفضاء. الحوار بدون أفعال يقرّب الكارثة أكثر من أي وقت مضى..نحن الأطباء نطالب بأفعال لتنفيذ المزيد من الأعمال التي ستؤدي إلى إلغاء جميع الأسلحة النووية.

السيدات والسادة الزملاء الأعزاء،

أوفياء لقسم أبقراط ، لا يمكننا أن نصمت ونحن نعلم ما يمكن أن يجلبه وباء - الحرب النووية -  للبشرية. يرن جرس هيروشيما في قلوبنا، ليس كجرس جنازة ولكن كجرس إنذار، يدعو إلى اتخاذ إجراءات لحماية الحياة على كوكبنا. لقد حذرنا الشعوب والحكومات من أن الطب سيكون عاجزًا عن تقديم الحد الأدنى من الإغاثة لمئات الملايين من ضحايا الحرب النووية.

لنتذكر كلمات المؤلف الفرنسي الرائع أنطوان دو سانت -إكسوبيري الذي قال: "لماذا نكره بعضنا البعض؟ نحن جميعًا في أمر واحد و في زمن واحد ، نتشارك نفس الكوكب ، نحن طاقم من نفس السفينة. إنه لأمر جيد أن يولد الخلاف بين الحضارات المختلفة شيئًا جديدًا وناضجًا. ولكنه أمر شنيع عندما يلتهمون بعضهم البعض ".

إن المواجهة هي طريق الحرب والدمار ونهاية الحضارة. حتى اليوم ، تحرم شعوب العالم من مئات الملايين من الدولارات التي هي في أمس الحاجة إليها لحل المشكلات الاجتماعية ومكافحة الجوع والأمراض. 

بينما التعاون هو الطريق إلى زيادة رفاهية الشعوب وازدهار الحياة. يعرف الطب العديد من الأمثلة عندما ساهمت الجهود المشتركة للدول والعلماء في مكافحة الأمراض مثل الجدري.

لم تكن السنوات الخمس التي أمضاها أطباء دوليون لمنع الحرب النووية كلها ورودًا. كان علينا أن نتعامل مع انعدام الثقة والتشكيك واللامبالاة والعداء أحيانًا. تطلعاتنا واضحة: فمنذ الأزل، كان الطبيب -ولا يزال- هو الشخص الذي يكرس حياته لسعادة إخوانه من بني البشر. 

إن منح جائزة نوبل لحركتنا ينشط جميع القوى الداعية إلى القضاء على الأسلحة النووية من الأرض.

في هذه اللحظة أتذكر البرقية التي تلقيتها وقت انعقاد أول مؤتمر لنا من امرأة عادية في بروكلين. كانت قصيرة: "شكرا نيابة عن الأطفال".

بصفتنا بالغين ، نحن ملزمون بتجنب تحول الأرض من كوكب مزدهر إلى كومة من ركام. واجبنا تسليمها لخلفائنا في حالة أفضل مما ورثناها. لذلك ، ليس من أجل الشهرة، ولكن من أجل السعادة ومستقبل جميع الأمهات والأطفال ، عملنا - نحن الأطباء الدوليون لمنع الحرب النووية -، ونعمل الآن، وسنظل نعمل...

نمتليء أنا و دكتور تشازوف -طبيب قلب روسي مؤسس-  مشاعر عميقة من الامتنان والتواضع والفخر لأننا نقبل هذه الجائزة المرموقة نيابة عن الرابطة. كلانا طبيب قلب، وعادة ما نتحدث عن القلب. إذا أردنا أن ننجح في هدفنا المتمثل في تخليص الترسانات العسكرية من أدوات الإبادة الجماعية ، فنحن بحاجة إلى القوة التنشيطية (غير العادية) التي تأتي عندما يتحد العقل والقلب لخدمة البشرية.

نحن الأطباء الذين يرعون الحياة البشرية من الولادة إلى الموت، لدينا واجب أخلاقي لمقاومة  الانجراف نحو الهاوية. يجب علينا التحدث نيابة عن السكان المهددين على هذا الكوكب الهش. 

#Science #Peace #UNESCO  #CARDIOLOGY 

Thursday, January 14, 2021

هل تذكرون أطباء سربرينتشا؟ -- إعادة نشر

 هل تذكرون أطباء "سربرينتشا"؟

إعداد و ترجمة د/ إيمان الطحاوي

 "على الرغم من أن الحرب قد انقضت، لكني لا زلت أحملها بداخلي و أعيش في تبعاتها".."نعم، لقد وضعت الحرب أوزارها، لكن الزمن لم يخفف الألم".."لقد تعلمت شيئا فشيئا أن أتعايش مع هذا الألم على مر السنوات، و أخيرا كان علي أن أخلق توازنا بين ألام الماضي التي لازلت أحملها، و الحاضر الذي أعيشه الآن".. " لقد خلقت نوعا من الفضاء السوريالي العجيب بين العالمين. فكلاهما لا يجتمع و لا ينفصل أيضا." 

 " إن كان قدري أن أكون طبيبا أثناء الحرب، فقدري أيضا أن أكون شاهدا؛ أتلو شهاداتي بعد هذه الجريمة".. "علينا ألا نصمت أبدا" " إننا حين نحكي قصصنا أثناء الحرب و المجازر، فإننا نوفي دينا لهؤلاء الذين قتلوا و لم يحييوا ليسردوا لنا قصتهم".." إننا بروايتنا و شهادتنا على الحرب و الانتهاكات و المجازر، نمنع مجازر مماثلة من الحدوث مستقبلا، و سننقذ آخرين من أن يلقوا نفس المصير في المستقبل بطريقة ما" .." و بالنهاية، فإن مالا يتم كتابته و توثيقه يكون كأنه لم يحدث".

 الدكتور إيلياز بيلاف - 2013  Dr Ilijaz Pilav

الطريق الطويل/طريق الموت:

 في يوليه من العام ألف و تسعمئة و خمسة و تسعين،  كان الخروج من بلدة سربرينتشا مستحيلا..كان أطول و أصعب طريق يمكنك أن تسير فيه لتنجو..طريق ابتدأه نحو  اثنا عشر إلى خمسة عشر ألف رجل ذاقوا مرارة الحصار و الجوع في سربرينتشيا لنحو ثلاث سنوات..كانوا يبعدون عن أقرب مكان تحت سيطرة قوات البوسنة المسلمة بنحو 50خمسين كيلو مترا..و كان عليهم أن يسيروا على الأقدام في هذا الطريق منهكين يحملون جرحاهم و العجائز..و محملين أيضا بفزعهم تحت شمس يوليو الحارقة..كان عليهم أن يصارعوا الموت وسط التلال و الغابات، جراء طلقات المدافع و الغازات المهلوسة، التي يطلقها الجنود الصرب بين الحين و الآخر..لقد استطاعوا الفرار من سربرينتشيا في الواحدة ظهرا في اليوم الحادي عشر من يوليو 1995 حيث كانت القوات الصربية على بعد مئات الأمتار من المتشفى.  كان الدكتور بيلاف واحدا ممن رحلوا. و أصر د/ بيلاف رغم تعنت القوات الأممية على إخراج الجرحى معه و أن لا يتركهم وراءه في مستشفى سربرينتشيا مخافة قتلهم على يد قوات الصرب.


كان نحو ثلاثة آلاف و خمسمئة رجل هم أول الواصلين إلى "توزلا" في السادس عشر من يوليه 1995..آخرون ضلوا الطرق و لم يصلوا إلا بعد أسابيع..بعضهم استسلم للصرب مضطرا، أو قبض عليه و من ثم تمت تصفيتهم وسط الغابات..بعضهم مات في الطريق متأثرا بجراحه. وآخرون مفقودون حتى الآن بلا أثر. 

مازال الدكتور بيلاف يذكر السير بين نيران القصف، و طلقات القناصة و الألغام في الغبات. يتذكر و يشهد على مجزرة أخرى، قام بها الصرب في "كرافيتشا" في الطريق ذاته. حيث امتلأ الطريق أمامه و خلفه بالقتلى و المصابين..  كانوا نحو خمسمئة إلى ألف مصاب و قتيل. حاول التأكد أن من لا يستطيع السير من المصابين يتم حمله و نقله.. "كان الأمر مرعبا لكن على الأقل استطعنا إنقاذ حياة بعض الجرحى." حين يتذكر الأمر يشعر بالفزع و تتغير ملامح وجهه كأنه حدث بالأمس القريب.

 مسيرة السلام 2005:

أراد الدكتور بيلاف أن يحيي ذكرى الرفاق و الأقارب ممن ماتوا و ضحوا في هذه الرحلة فأقام  مسيرة السلام في عام ألفين و خمسة. و المسيرة كانت موتا محدقا بالفارين من المجزرة إلى المجهول في صيف عام ألف و تسعمئة و خمسة و تسعين. حيث لم يكن معروفا لديهم أية جهة محددة يسيرون فيها في الغابات،  و لا يعرفون هل لازالت توزلا تحت حكم القوات البوسنية أم سقطت مثلما سقطت سربرينتشيا بيد الصرب؟

مسيرة 1995: إنه لا ينسى...!

لم ينس الطبيب أنات الجرحى يسمعها في الظلام و هو لا يستطيع أن يفعل لهم شيئا. و لم ينس أيضا أخاه الذي كان يسأله عن معنى الحياة و الموت..لم يستطع أن يجيبه، فلم يعد هناك معنى لأي إجابة حينها..افترقا لعل أحدهم يحظي بفرصة للنجاة..لكن أخاه ذهب عائدا إلى قاعدة "بوتوكاري"، و لم يوقفه أخوه  حينها..فلم يكن أحدهما يعلم أين طريق النجاة في هذا الموقف الحرج..و مات أخوه، و عاش هو..لا يزال السؤال يلح على ذهن الدكتور بيلاف كل يوم: هل فعل كل ما بوسعه حقا؟ هل كان هناك ثمة تصرف آخر يستطيع أن يفعله؟ كان شعورا صعبا حين فر إلى "توزلا"، شعور من لا يملك أملا لكنه يحاول و لا يستسلم..للحظات، بكى هذا الطبيب الجراح القوي..و كشف لنا عن قلب محطم لسنوات. قلب طبيب محطم.. تغيرت نبرة صوته و كأنها تحمل ألام الألاف ممن قتلوا و كأنه يتحمل وحده مسؤلية و ذنبا لا يد له فيه..و حين وصل لخط الأمان ، لم يعد يشعر بالخوف من الصرب.. ربما صار شعورا باللاخوف و اللا أمان أيضا. فما الذي سيصيبه أكثر من ما شاهده من أهوال. لم يعد يستسلم للشعور بالفزع.. لكنه أيضا لم يشعر بالسعادة حين وصل و نجا بحياته مع آخرين..و أي سعادة تلك و هناك الألف قتلوا و فقدوا و منهم أخوه الأكبر منذ أيام..  يقول إنه لا يدعي "البطولة المطلقة"..لكنه كان صامدا حقا و بقوة لسنوات..إنه صمود الرجال حقا.   

شارك د/ بيلاف في مسيرات السلام و واصل زياراته لمقبرة "بوتوكاري" حيث دفن ضحايا مجزرة "سربرينتشا".. و بين الحين و الآخر، يلقي كلمة عن المجزرة و عن التسامح أيضا.  

تعريف بالطبيب البطل:

ولد د/ بيلاف في  عام ألف و تسعمئة و خمسة و ستين. بدأ دراسته الطبية في سراييفو و بعد تخرجه قدم له مشرفه عملا طبيا في سراييفو كجراح..لكنه قرر أن يعود لبلدته الجميلة حيث الحياة الهادئة في سربرينتشا على الحدود الصربية البوسنية، ظانا أنه لن يحتاج للعمل في سراييفو كجراح..لكن سرعان ما بدأت الحرب و احتاج مضطرا للعمل في سنوات الحرب كطبيب وجراح أثناء خدمته العسكرية.

بعد حصار لنحو عام، أعلنت سربرينتشيا مدينة آمنة تحت حماية قوات حفظ السلام الأممية مع بلدة "زيبا" ZEPA  في عام ألف و تسعمئة و ثلاثة و تسعين.  لكنها كانت محاصرة في نفس الوقت. لم يكن د/ بيلاف أكمل عامين من التدريب بعد التخرج و عمره ثمانية و عشرون عاما. ..كان –إذن- يعمل بلا خبرة كبيرة و بلا معدات و لا أدوية تقريبا (خاصة المضادات الحيوية و مسكنات الألم و أدوية التخدير)..و مما زادالأمر تعقيدا أنه كان يعمل مع رفاق مدربين..كان د/ بيلاف بينهم طبيبا و عسكريا في ذات الوقت حين كان يؤدي خدمته العسكرية. أخبره القائد "ناصر أوريتش" أن عمله الطبي مقدم على العسكري؛ لأننا إن فقدنا قائدا عسكريا في هذا الحصار، من المكن أن يحل محله من يليه..لكن الطبيب لا حيث لم يعد ناك من أصل خمسة و أربعين طبيبا أحد يذكر..في هذه الأوقات العصيبة كان يعالج الجرحى من مصابي الخطوط الأمامية في الحرب ثم توجه ليصبح طبيبا بالمشفى الوحيد مع رفاقه. في لحظة حرجة، كان عليه أن يحسم أمره، فإن شاء هرب و تنصل من المسؤلية و إن شاء بقى و تعرض للخطر مع رفاقه الخمس..خمس أطباء فقط عليهم أن يعالجوا جرحى و مرضى -بكافة التخصصات- في مدينة مغلقة على نحو أربعين إلى خمسين ألفا، من أهل البلدة و الفارين إليها وكثير منهم فقراء أو بلا مأوى..مرت الأيام، و اعتاد الأطباء الخمس العمل تحت القصف، لدرجة أن قذيفة سقطت داخل غرفة العلميات، لكنها لم توقفه عن إتمام الجراحة التي كان يقوم بها. فانتظر حتى انقشع الغبار الذي خلفته القذيفة ليكمل خياطة الشريان في جراحة لمصاب في ذراعه و وجهه من أثر قصف سابق. بالنهاية، أجرى د/ بيلاف  نحو ثلاثة ألاف و خمسمئة جراحة أثناء سنوات وجوده في "سربرينتشا".   

و جاءت أولى المساعدات الطبية من " توزلا" حيث خاطر بتوصيلها طبيب مقدام آخر و هو (د/ ندرت مويكانوفيتش) Dr Nedret Mujkanovic . أحضر المعدات و الأدوات الجراحية اللازمة لأصدقائه الأطباء المحاصرين في "سربرينتشيا". قام بتهريبها سيرا لمدة أسبوع متخطيا الألغام و مرمى نيران الجنود الصرب ليدخل "سربرينتشا" في أغسطس 1992. و قضى نحو ثمانية أشهر مساعدا زملائه في "سربرينتشا"، أجرى نحو ألف و ثلاثمئة عملية جراحية. لاحقا، منح أعلى تكريم من الجيش البوسني و هو  (الزنبقة الذهبية)...و أخيرا،.. مات منتحرا  في العام ألفين و ثمانية.

يقول الدكتور بيلاف: "لقد كان علي أن أقنع المصاب بأن يتحمل الألم لأطول وقت ممكن أثناء الجراحة مثل البتر مثلا أو جراحة في البطن..و أعلم في قرارة نفسي، أنني شخصيا لا أتحمل هذا الألم"..كان ذلك بسبب عدم وجود أدوية التخدير، و التي لم تصل إلا بعد شهور من الحصار و بكميات قليلة. كان الأمر أشبه بعملية تعذيب يضطر لها الطبيب لينقذ المصاب و يقبل بها المصاب لينقذ حياته. كان المستشفى المحاصر - بلا أدوية أو مستلزمات- أقرب لمكان بدائي من القرون الوسطى أكثر من كونه مكان طبي في نهاية القرن العشرين. و  وصلت المواد المخدرة متأخرة في قافلة لاحقة.

كان عدد المصابين يزداد مع القصف و انفجار الألغام يوما بعد يوم. و عليهم أن يتعاملوا مع الأمر بنجاح لكن بخبراتهم البسيطة و بلا إمكانيات تقريبا! كان المصابين متراصين في الطرقات و الأطباء يعملون دون توقف لأيام بلا راحة يواصلون ليلهم بنهارهم.. التحق بهم طبيب و تخرج آخر وقتل ثالث- الدكتور نجاد دتزانيتش- -  Dr Nijaz Dzanic- أثناء قصف جوي في صيف 1992العام ألف و تسعمئة و اثنين و تسعين..كان عليهم أن يخدموا نحو  50 ألف مدنيا ممن يعيشون في "سربرينتشا" محاصرين من 1992 حتى 1995. 

لقد اندهش فريق عمل منظمة "أطباء بلا حدود" من ظروف العمل وسط نقص المستلزمات و المعدات في بداية الحرب..و فعلوا ما بوسعهم لإدخال الإمدادات الطبية (و التي تفنن الصرب في عرقلة دخولها حتى مع القوات الأممية عدة مرات). كان هذا بعد شهور من عزل سربرينتشيا..و كانت مساعدتهم محل تقدير كبير من الجميع أطباء و مصابين. 

يوم المجزرة:

و أخيرا، جاء اليوم الحاسم.. حين بدأ الصرب دخول سربرينتشيا...الآن، عليك أن تنقل المصابين من المستشفى قبل أن تصل قوات الصرب و التي لم تتوان من قبل عن اقتحام المستشفيات و قتل الجرحى. عمل د/ بيلاف رفقة زملائه الأطباء بالمستشفى لا ينام إلا ثلاث ساعات يوميا لمدة خمسة أيام منالسادس من 6 يوليه حتى اليوم الحادي عشر من الشهر ذاته..كان الصرب يقصفون منتصف البلدة كل ساعة تقريبا  بينما تجري مناوشات على أطراف البلدة. رفض د/ بيلاف أن يعتبر هذه هي النهاية، حاول إرسال رسالة باتصال إذاعي للقوات البوسنية (ليخبرهم بوصول قوات الصرب للبلدة) عن طريق مكتب البريد، فجاءه الرد: "إن القائد يستريح الآن". ربما كانت القوات الصربية تتحكم في الإشارات حينها. لا شيء لم يفعله الصرب..و رأى أنه لا أمان أو تعويل على القوات الأممية. توجه لقائد من كتيبة القوات الهولندية المسؤولة عن حماية المدنيين في سربرينتشيا مطالبا إياه بحماية المستشفى و فتح البوابة و إزالة السلك الشائك ليخرج المصابين منها. رفض القائد طلبه بحجة أن القوات الأممية لن تستقبل هؤلاء الجرحى في مقرها لأنهم غير مهيئين للتعامل مع الجرحى..ثم أجابه القائد أنه لا علاقة له بالصراع بين المسلمين و الصرب..لم يكن هناك وقت ليناقشه فهدده الطبيب بفتح البوابة بالقوة..و أخيرا، سمح له القائد الأممي بإخراج الجرحى من المستشفى قبيل وصول قوات الصرب..هذا التصرف و الرد الأممي يلخص رد كل مسؤولي الأمم المتحدة حينها.. و حين صرخ أحدهم "الصرب دخلوا البلدة"، كان على الأطباء الخمس أن يختاروا من بين مئات المصابين من منهم سيستطيع السير، و من يجب حمله. أخذوا معهم  ما تمكنوا من حمله من الأدوية و المحاليل البسيطة ليبدءوا رحلة الخروج من "سربرينتشا". خرجوا كسرب ممزق من المنهكين و المرضى و المصابين و الأطباء..خرجوا ليبدءوا رحلة الطريق الطويل.

 أحد جنود هولندا من القوات الأممية قال مدافعا عن نفسه حين أدين بالتورط و التواطوء مع قوات الصرب قبيل مجزرة "سربرينتشا". قال: إنه من الصعب تحديد من هم الرجال الطيبون و من هم الأشرار!..و بهذا القياس المغلوط و التبرير الأحمق، فهو يدعي أنه لم يكن مخطئا حين تراخى أو تواطأ مع قوات "صربيا" حين تسلمت بلدة "سربرينتشا" التي كانت تحت حماية الأمم المتحدة..بالنهاية، ارتكبت المجزرة... 

عودة إلى المشفى الميداني:..

**في كتابها (مشفى حرب: قصة حقيقية للجراحة و البقاء) المنشور في عام ألفين و ثلاثة..تعرض لنا الطبيبة و الصحفية الأمريكية (شيري فينك) و الفائزة بجائزة بوليتزر..تعرض لنا تجربة خمس أطباء احتجزوا في جيب "سربرينتشا" مع نحو خمسين ألف من الرجال و النساء و الأطفال العزل في أبريل من عام ألف و تسعمئة و اثنين و تسعين حتى عام ألف و تسعمئة و خمسة و تسعين.. و كان عليهم أن يكونوا الملجأ الطبي الوحيد للجرحى دون وجود جراح واحد بينهم في مشفى صغير معد لخدمة بلدة صغيرة يسكنها أقل من عشرة ألاف. فإذا به فجأة ملجأ لنحو خمسين ألفا و لسنوات.. و بمساعدة من ثلاثة أطباء آخرين أحدهم من أطباء بلا حدود..و الآخر جراح من البوسنة كان عليه أن يعبر الطرق  و حقول الألغام ليصل لهم..استطاعت هذه المجموعة الصغيرة أن تعبر أزمة استمرت لأربع أعوام و نصف..كانت على أشدها حين احتل الصرب سربرينتشيا في يوليه 1995. و كانت أصعب الأوقات المصيرية حين يقرر الطبيب أن هناك أمل من أن  يعالج هذا الجريح و أن عليه أن يترك ذاك الجريح ليلقى حتفه.

كان الأمل في ألا يحدث هجوم بسبب من وجود القوات الأممية و أحد أطباء "منظمة أطباء بلا حدود"..كان أملا خادعا لم يصدقه حتى أي ممن تعلقوا به..فلا الأمم المتحدة حمتهم و لا الصرب خافوا من تشوه صورتهم أمام العالم منذ بدء الحرب. فأعمل الصرب آلة القتل متعطشين لمزيد من الدماء..فحصدوا بدم بارد أرواح أكثر من ثمانية ألف رجل أعزل في نحو ثلاثة أيام، و هكذا كانت كانت مجزرة سربرينتشيا. 

__

"The five doctors who remained – Ilijaz Pilav, Avdo Hasanovic, Fatima Dautbasic, Branka Stanic and Ejub Alic – had to bear the burden providing care to the 50,000 people in the besieged town of Srebrenica".

و قبل أن أنتهي و على سبيل العرفان: أتلو أسماء الأطباء الذين كانوا بالمشفى في سربرينتشا.

"إلياز بيلاف ، أفدو حسنوفيتش ، فاطمة دوتباسيتش ، وبرانكا ستانيتش ، وإيجوب أليتش – و دائما معهم نجاد دتزانيتش- ندرت مويكانوفيتش"..

هذا، و دم الشهداء...

د/إيمان الطحاوي.

 ملحوظة: ترجمة الاسماء من ترجمتي قدر المستطاع. أرحب بالتعليق و التصويب.

SOURCES:

http://www.srebrenica.org.uk/survivor-stories/dr-ilijaz-pilav/

https://iwpr.net/global-voices/unsung-heroes-srebrenica
https://www.goodreads.com/book/show/209414.War_Hospital

https://scholar.google.com/citations?user=Z27VqOIAAAAJ&hl=en
https://jamanetwork.com/journals/jama/article-abstract/198822

https://www.refworld.org/docid/51e3a5e24.html
https://www.nytimes.com/1993/04/24/world/conflict-balkans-view-bosnia-war-srebrenica-hospital-s.html


Sunday, January 10, 2021

في وداع 2020 ..أن تأتي متأخرا

مما قرأت: المواضيع الأكثر رواجًا لعام 2020: ما بحث عنه النّاس في العالم العربي بعيدًا عن فيروس كورونا المستجد

مرّ عام ومعه أحداث لم تخطر على بال أحد، مع بداية انتشار فيروس كورونا المستجد وغيره من الأحداث. فهل كانت الجائحة هي الموضوع الذي بحث عنه الجميع وتصدّر قوائم عمليات البحث الأكثر رواجاً على Google لسنة 2020؟

 لقد أوضحت عمليات البحث الأكثر رواجاً على محرك بحث Google أنّ على الرغم من وجود الجائحة، إلا أن شغف التعليم ومواكبة الاهتمامات من الرياضة إلى الفن كان له دور هام في حياتنا جميعًا. وكان ذلك وفقًا لتقرير Google السنوي الذي يتناول أكثر مواضيع البحث رواجاً وبحثًا لعام 2020 والتي تتضمن الشخصيات العامة والمشاهير والأحداث والأغاني والبرامج التلفزيونية والمسلسلات والمباريات الرياضية في مختلف الدول العربية. 

تم إعداد التقرير من خلال النظر إلى زيادة عمليات البحث أو الأسئلة المطروحة (المجمعة ومجهولة الهوية) على محرك Google في الفترة بين عامي 2019 و2020. وقد حُذف المحتوى غير المناسب إلى جانب الأسئلة المتكرّرة، لاستخلاص نتائج تعكس جانبًا من تجارب واهتمامات الأفراد في العالم العربي.

فما هي المواضيع والأحداث التي جذبت انتباه المنطقة بعيدًا عن الجائحة؟ إليكم نظرة وفقاً للترتيب الأبجدي للدول العربية:


مصر:

تصدرت "نتائج الثانوية العامة" المرتبة الثانية، فلم يقل الاهتمام بالدراسة أثناء الجائحة على الرغم من التحديات التي واجهها المعلمون والطلاب. وكانت "المكتبة الرقمية" ضمن الكلمات الأكثر بحثًا في مصر مع محاولات التأقلم للدراسة عن بعد. واستمر المصريون في ملاحقة اهتماماتهم سواء في متابعة أحداث عالمية مثل "الانتخابات الأمريكية" أو متابعة كرة القدم وخاصة "الدوري المصري". وأما محبي المسلسلات، فكان البحث عن مسلسلات "الاختيار" و"البرنس" هم الأكثر رواجاً.  


 

المصدر

 https://arabia.googleblog.com/2020/12/2020.html

Sunday, August 16, 2020

فاطمة.. " وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ"

ما الذي اقترفته فاطمة، و من ذا الذي تزعجه مولودة بعمر الساعات حتى يقتلها؟

Fatima Hajrudin Muhić (1995-1995) 



كتبت د/ إيمان الطحاوي

في  12 يوليه 1995، أنجبت (هافا موهيتش) ابنتها في المقر الهولندي لقوة الأمم المتحدة للحماية (مصنع بطاريات قديم). أنجبتها بعد يوم من دخول القوات الصربية لبلدة (سربرنيتسا). 

الأحداث: قتل جنود صرب بعضا من مسلمي سربرنيتسا في محيط المقر الأممي. و منهم صبي ذبح و رأت أمه جثته مفصولة الرأس أثناء خروجها بالحافلة. لقد قامت قوات الأمم المتحدة بدورها المخزي بتسليم أهل البلدة رجالا و نساءا للقوات الصربية، طلبوا من قوات الصرب أن لا يقتلوا أحدا قريبا من المقر! و جاءتهم الأوامر بعدم الاحتكاك مع قوات الصرب. بعد ساعات، قتل الصرب زوجها و أخيها في نفس المجزرة مع أكثر من ثمانية ألاف رجل بمقابر أخرى جماعية.    

في أواخر عام 2011،  أدلى أعضاء الكتيبة الهولندية الأممية بشهادتهم بعد إنكارة لسنوات. اعترفوا بوجود مقبرة جماعية بمحيط المصنع القديم (المقر الأممي).  

 في 10 ديسمبر 2012، تم العثور على بقايا المولودة (فاطمة)، من بين خمسة ضحايا تم استخراجهم من المقبرة الجماعية بمحيط المصنع. كانت عظامها صغيرة و مختلطة ببعضها مع الآخرين. لم يكن من السهل تحديد لمن ينتمون.  فاطمة هي أصغر ضحية للإبادة الجماعية في سربرنيتسا. هناك ما لا يقل عن 8371 ضحية أخرى ، لكن فاطمة عاشت أقصر وقت خلال تلك الليلة العصيبة من يوليو 1995.

هناك رواية أخرى..حيث تلقي الأم باللوم في وفاة طفلتها على الاندفاع المحموم للبحث عن الأمان بين قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة حين اجتاح الصرب البلدة. كان الأطباء الخمسة حينها مع الجرحى في ظروف عصيبة حيث غادروا بالمصابين. تقول الأم أن سيدة ساعدتها في الولادة في مجمع الأمم المتحدة. و لم يسمحوا لها برؤية مولودتها فور ولادتها. أخبرتها السيدة بعدها أن الفتاة ولدت ميتة، و ان حبلها السري كان ملفوفا حول رقبتها! لم يخبرها أحدهم أين جثتها، و لا أين دفنت! بعد نصف ساعة، كانت تنزف بعد الولادة، و كان عليها أن تشحن في الحافلات مع بقية النسوة المغادرات سربرنيتسا. انتهى الأمر!

في 11 يوليه 2013،  بعد أن توسلت الأم (هافا) أن يكون لابنتها اسم مكتوب على شاهد قبرها. أطلقوا عليها اسم (فاطمة). و إن لم يكن للطفلة نصيب من الحياة و لم يرحمها قاتلها، فليكن لها اسم بعد الممات. تم دفنها في المقبرة الجماعية مع 408 ضحية أخرى تم التعرف على رفاتهم بتقنية الحمض النووي في مشهد يتكرر كل عام. دفنت رفاتها في قبر صغير مغطى بالزهور بجوار قبر أبيها و قبور معظم رجال العائلة الذين قتلوا في ذات المجزرة.

في 11 يوليه 2020،... فاطمة ، اليوم عمرها 25 عاما، و كل عام ستكبر معنا..فاطمة عمرها بعمر مجزرة سربرينتسا. إنني أتخيل قاتلها الصربي الآن يكبر كل عام، و ينعم بحياته. و أراه مع بقية مجرمي المجزرة، و قد أطلق سراحهم بعد تمضية بضعة سنوات. و ربما لم يحاكم بالأساس! فالقصاص الدنيوي ليس عادلا تماما..من سيحاسب كل الجنود واحدا تلو الآخر؟ و بأي دليل؟ إن كثير من قادة الحرب المحرضين على المجازر لم يحصلوا على سجن مدى الحياة و بعضهم خرج بعد انتهاء محكوميته منذ سنوات!  فما بالنا بصغار الجنود؟

من بين ألاف من مجرمي حرب البوسنة، هنالك شخص واحد أتعجب منه.. هذا الذي قتل أو تسبب في وفاة رضيعة بعمر الساعات. و ذاك الذي ذبح ذبحا طفلا بعمر الست سنوات أمام أعين القوات الأممية في 12 يوليه 1995..و آخر قتل كهلا مسلما يناهز السبعين في نفس توقيت المجزرة!   

أسائلهم: (بأي ذنب قتلتموهم؟ بأي ضمير فعلتم فعلتكم تلك؟ بأي عقل كنتم تتصرفون؟) 

المراجع:

https://www.danas.rs/dijalog/licni-stavovi/oprosti-nam-fatima/

https://prishtinainsight.com/forgive-us-fatima/

https://www.sarajevotimes.com/youngest-victim-bothered-two-day-old-fatima/

https://www.findagrave.com/memorial/113676834/fatima-muhic

Daughter of Hajrudin & Hava Muhic

Born & died at the United Nations compound in Potocari, Srebrenica

http://srebrenica-genocide.blogspot.com/2012/12/testimony-i-saw-headless-body-of-my-son.html

https://www.flickr.com/photos/bosnjaci/9409557941

AFP PHOTO / ELVIS BARUKCIC (Photo credit should read ELVIS BARUKCIC/AFP via Getty Images)


Saturday, June 27, 2020

إلى عرفات الله ١

كتبت د/إيمان الطحاوي.
إلى عرفات الله..يا خير زائر.
لم يكتب الله لنا حج هذا العام، و هذا أمر الله.. و هنا ألقى سلاما لكل حاج.. و ما أجمله من سلام و مديح لخير زائر إلى رب الأنام سائلا المغفرة و، آملا في القبول. و ما أبهاه من منظر نتطلع له كل عام إذ يجتمع المسلمون من مشارق الأرض و مغاربها شعثا غبرا و، سواسية.. لا فرق بين غني و فقير لا يرجون إلا رحمة ربهم..جميعهم يعترفون بذنوبهم، و يذرفون دموعهم خوفا و حسرة على ما فرطوا.. كلهم يدعون ربهم طمعا في قبول حجتهم، و عتق رقابهم من النار..آملين في العودة بلا ذنب إذ يغسل الحج الذنوب كما يغسل الماء درن الأبدان..هو منظر يباهي به الله بأهل الأرض أهل السماء. و ما الحج إلا عرفة، و عرفة هي الركن الرئيس للحج. وعرفة زمان و مكان. ذلك اليوم الفريد الذي يجتمع فيه المسلمون طالبين رحمة ربهم سواءا الحاج منهم أم غير الحاج. و عرفة ذلك الموقف و المكان المتفرد في تجميعه لحجاج المسلمين.. و ما رحمة الله بقاصرة على أحد إذ شملت كل شيء. عرفة هو يوم للمغفرة و يوم للتذكرة بيوم الحشر. و أعود لقصيدة (إلى عرفات الله)، تلك القصيدة التي تعدت ذكراها المائة عام ولا تزال تتردد في موسم الحج حتى يومنا هذا.. و هذه القصيدة الشهيرة التي قامت (أم كلثوم) باختيارها لتشدو ب 25 بيتا بعدما طلبت من الشاعر (أحمد رامي) أن يعدل لها بعض الكلمات. و لها قصة طريفة ذكرها (حسين شوقي) في كتابه (أبي شوقي)..حيث كتبها شوقي اعتذارا عن تخليه عن اللحاق بالخديوي (عباس حلمي الثاني) ؛ ليؤدي فريضة الحج. ومع هذا اشتهرت كأجمل قصيدة في العصر الحديث تصف موسم الحج و رحلته و مشاعر النفس البشرية حتى زيارة المدينة المنورة، و السلام على رسول الله (صلى الله عليه و سلم) و مخاطبته.. كذلك دمجت القصيدة الشعور الوطني بالدين رافعة قيمة حب الأوطان. و للحديث بقية.

Friday, June 12, 2020

بين خوف ورجاء..رب ارجعون

الحمدُ للهِ لا كربٌ ولا ألمُ
ربٌّ كريمٌ له الأنوارُ والظُّلَمُ

شطَّ المزارُ وزاد الشوقِ في كبدي

أين الحبيبُ فإن القلب مضطرمُ

هذي المدينةُ كالفردوس مشرقةٌ

حلمٌ أراهُ أمِ الأشباح ترتسمُ؟

هذي المدينة لا دارٌ تشابهُها

من لَم يزُرها فقد زلَّت به القدمُ*

أيام و أشهر، اختصرها بقولي  "اشتقت" لزيارة المدينة المنورة و الصلاة في المسجد النبوي..شددت الرحال و عانيت حتى وصلت.. أصابني الوجد حتى جاءت ليلة الجمعة..لم أنم ساعة واحدة بعد الفجر شوقا للصلاة في المسجد النبوي ..أعددت العدة و ذهبت في الساعة الحادية عشرة صباحا..في الطريق، رأيت أناسا عائدين من جهة المسجد النبوي، فظننتهم ذاهبين لمسجد آخر مبكرا..أخذ عقلي يعدد و يبتكر أسبابا كثيرة إلا أن يكونوا قد أغلقوا المسجد النبوي مبكرا لهذا الحد..رأيت رجلا و امرأة في اتجاههم للمسجد النبوي، فاطمأن قلبي قليلا..حين اقترتب، هالني ما سمعت و رأيت، أغلقوا الحرم..لا اعتقد أنهم أغلقوه مرة ثانية بسبب تزايد الحالات الكورونا..وارد أن يكون بسبب امتلاء الحرم بالمصلين!

اقتربت أكثر، تسابقني دقات قلبي المتسارعة و إذا برجل الأمن يقول (ارجعوا) في مكبر الصوت (ارجعوا..) بلكنة لا أعلم إن كانت عربية أم أعجمية..لكنها قوية آمرة بلا رحمة (ارجعوا..). هكذا نطقها لتستقر في نفس سمعتها..و سمعتها فأخافتني خوفا لم أشعر به من قبل، و كأنه يوم الحشر و هناك من يقول (ارجعوا). و كان المسجد النبوي جنتي، و ها هو يردني عنه (ارجعي)..و ما هو إلا بقدر الله..أم إنه لن يردنا عنها إلا ذنوبنا فلم يكتب لنا الله هذه المكرمة و هذا الطمع في الأجر بألف صلاة.. و تذكرت رجعة أخرى يوم يقترب منا الموت..لن نرجع مهما دعونا و حاولنا..اليوم نستطيع أن نعمل عملا صالحا و أن نكف عن آخر سيئا..اليوم نستطيع أن نصلي بالمساجد بعدما حرمنا منها لشهور..اليوم نستطيع كل فعل بفضل الله و غدا لا نستطيع إلا الندم و عض الأنامل على ما قصرنا في جنب الله...فهلا تداركنا هذا التقصير.

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [ المؤمنون: 99- 100].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [ المنافقون: 9-11].
في طريق عودتي ساعدت عجوزا في السير رفقة زوجها رفض رجل الأمن دخولهما مثلي. كنا على بعد أمتار، نرى الحرم و لكن الله لم يشأ..و هنا دارت بي الأفكار في طريقي، أبكي و أنا أرى حمام الحرم حولي..ألم تبشروني بالزيارة؟ ألم تشهدوا فرحي و استبشاري بكم في طريقي؟ أم إنها ذنوبي التي منعتني أن أصلي هذه الجمعة في هذا المسجد المبارك؟
( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين . بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) [الأنعام : 27].
أذكر الطيور التي كانت تستعذب أنهارا من دمع أبينا آدم  فيزداد بكاءا ظنا أنها تسخر من ذنبه..و بذنب واحد نزل آدم إلى الأرض من الجنة..فهل بذنوبنا الغفيرة تلك سندخلها؟ ..إلا أن يتغمدنا الله برحمته.
( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)  [الأعراف:  23].
ألا يشبه هذا يوم القيامة؟ يوم لا يقبل منا عدل و لا شفاعة؟ و كأنني منعت اليوم عن الزيارة كمثال لما سيكون يوم القيامة..يوم لا يقبل منا عدل و لا شفاعة. سرت على غير هدى. و الله لا أذكر إلا يوم الحشر و أنا أرى العشرات من الوافدين  في المدينة المنورة يقفون في العراء و درجة الحرارة تصل إلى 45 درجة..منتظرين أمام باب المساجد ما منعهم إلا هذا الوباء أن يصلوا بمسجد رسول الله....تائهة حيرانة، هل أذهب لأحد أزور شهداء صدقوا ما عهدوا الله عليه و أتذكر الموت و كفى به واعظا؟ أم أذهب لمسجد قباء. غامرت و ما أجملها من مغامرة،  أشار السائق إلى أن قباء مزدحم الآن. قلت فلنحاول و لنصدق النية مع الله..و إذا بالزحام متوسط و عبرت الطريق تحاوطني الطيور و تطير حولي كما تفعل بطفل راح يلاعبها..رأيتها طيور المدينة تهلل لي فرحا..و دخلنا لمسجد قباء و صلينا الجمعة..وسبحانه و تعالى كتب لنا أجر عمرة..كان هذا مكتوب من قبل أن أنوي و من دون أن أدبر له..شكرت الله على نعمه، فكم من احتاج لعمرة تمحي الذنوب و لم يستطع.. و كم من سوء ظن بالله و نحن لا نعمل ماذا يخبيء لنا قدره..و كم من ذنب ننساه لكنه سبحانه لديه ملائكة يكتبون كل شيء..و كم من سبل للمغفرة و للعظة. فاستغفروا و اطمئنوا لرب غفور رحيم..
(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) [الزمر 55-59].

و للحديث بقية..في رحلتي مع الفتوحات المدنية



* قصيدة ( أشواق إلى طيبة) أ. د. محمد رفعت زنجير

Saturday, May 16, 2020

#ASonnetADay




"A Sonnet A Day by Sir Patrick Stewart" playlist: https://www.youtube.com/watch?v=InIMP... "When I was a child in the 1940s, my mother would cut up slices of fruit for me (there wasn't much) and as she put it in front of me she would say, "An apple a day keeps the doctor away." How about, “A sonnet a day keeps the doctor away”? So...here we go: Sonnet 1." (via Twitter)




السونيتات:


كنت قد أبحرت في الفترة الأخيرة في مسرح عصر النهضة الإنجليزية.  سبق، و أن قرأت (سونيتات) شكسبير منذ 2008 و منها اخترت اسمي في عالم التدوين..و الآن نعيد قراءتها و تسجيلها عبر الانترنت. و قد ألهمنا فكرة قراءة قصيدة  واحدة يوميا و تسجيلها الممثل الانجليزي السيد/  باتريك ستيوارت عبر "تويتر"  . حيث بدأ نشرها مصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أثناء الإغلاق التام منذ نحو شهرين. و الفنان يقرأ سونيتة واحدة يوميا و تأخذ أقل من دقيقتين في القراءة.

وسنختار النسخة المترجمة للدكتور محمد عناني -إصدار الهيئة العامة المصرية للكتاب و هي نسخة ورقية حديثة. 

و أدعو الأصدقاء و المدونين لتسجيل هذه الأعمال الخالدة بأصواتهم خاصة في فترة الحجر الصحي.  أتمنى أن تكون بادرة لشيء مفيد نستغل به الوقت أثناء هذه الجائحة. 

Wednesday, July 04, 2018

هل تذكرون أطباء سربرينتشيا؟

  إعداد وترجمة د/ إيمان الطحاوي


"على الرغم من أن الحرب قد انقضت، لكني لا زلت أحملها بداخلي و أعيش في تبعاتها".."نعم، لقد وضعت الحرب أوزارها، لكن الزمن لم يخفف الألم".."لقد تعلمت تدريجيا أن أتعايش مع هذا الألم على مر السنوات و أخيرا كان علي أن أخلق توازنا بين ألام الماضي التي لازلت أحملها، و الحاضر الذي أعيشه الآن".. " لقد خلقت نوعا من الفضاء السوريالي العجيب بين العالمين. فكلاهما لا يجتمع و لا ينفصل أيضا." 

" إن كان قدري أن أكون طبيبا أثناء الحرب، فقدري أيضا أن أكون شاهدا أتلو شهاداتي بعد هذه الجريمة".. "علينا ألا نصمت أبدا" " إننا حين نحكي قصصنا أثناء الحرب و المجازر، فإننا نوفي دينا لهؤلاء الذين قتلوا و لم يحييوا ليسردوا لنا قصتهم".." إننا بروايتنا و شهادتنا على الحرب و الانتهاكات و المجازر، نمنع مجازر مماثلة من الحدوث مستقبلا، سننقذ آخرين من أن يلقوا نفس المصير في المستقبل بطريقة ما" .." و بالنهاية، فإن مالا يتم كتابته و توثيقه يكون كأنه لم يحدث"
الدكتور إيلياز بيلاف - 2013  Dr Ilijaz Pilav


الطريق الطويل/طريق الموت:

في يوليه 1995، كان الخروج من بلدة سربرينتشيا صعبا..كان أطول طريق يمكنك ان تسير فيه لتنجو..طريق بدأه نحو 12-15 ألف رجل ذاقوا مرارة الحصار و الجوع في سربرينتشيا لنحو 3 سنوات..كانوا يبعدون عن أقرب مكان تحت سيطرة قوات البوسنة المسلمة بنحو 50 كيلومترا..و كان عليهم أن يسيروا على الأقدام منهكين في هذا الطريق سيرا على الأقدام و حاملين جرحاهم و العجائز و محملين بفزعهم تحت شمس يوليو الحارقة. كان الدكتوربيلاف واحدا ممن رحلوا..كان عليهم أن يصارعوا الموت وسط التلال و الغابات جراء طلقات المدافع و الغازات المهلوسة التي يطلقها الجنود الصرب بين الحين و الآخر..لقد استطاعوا الفرار من سربرينتشيا في الواحدة ظهرا يوم 11 يوليه 1995 حيث كانت القوات الصربية على بعد مئات الأمتار من المستشفى. و أصر د/ بيلاف رغم تعنت القوات الأممية على إخراج الجرحى معه و أن لا يتركهم وراءه في سربرينتشيا لاحتمال قتلهم على يد قوات الصرب.

 بعضهم وصل بعد أيام حيث وصل نحو 3500 رجل في 16 يوليه 1995 إلى توزلا..آخرون ضلوا الطرق و لم يصلوا إلا بعد أسابيع..و بعضهم استسلم للصرب أو قبض عليه و قتل في الطرق وسط الغابات..بعضهم مات في الطريق. وآخرون مفقودون حتى الآن. 


لا يزال يتذكر السير بين القصف، و الماء المسمم، و نيران القناصة و الألغام. يتذكر و يشهد على مجزرة، قام بها الصرب في كرافيتشا. حيث امتلأ الطريق أمامه و خلفه بالقتلى و المصابين  كانوا نحو 500-1000 مصاب و قتيل. حاول التأكد أن من لا يستطيع السير من المصابين يتم حمله و نقله.. "كان الأمر مرعبا لكن على الأقل استطعنا إنقاذ حياة بعض الجرحى." حين يتذكر الأمر يشعر بالفزع و تتغير ملامح وجهه كأنه حدث بالأمس القريب.

مسيرة السلام 2005:
أراد الدكتور بيلاف أن يحيي ذكرى الرفاق و الأقارب ممن ماتوا و ضحوا في هذه الرحلة فأنشأ مسيرة السلام في 2005..و التي كانت تعتبر في 1995 مسيرة الموت المحدق بالفارين من المجزرة إلى المجهول. حيث لم يكن معروفا لديهم أية جهة محددة يسيرون فيها،  و لا يعرفون هل لازالت تحت حكم القوات البوسنية أم سقطت مثلما سقطت سربرينتشيا بيد الصرب؟

لم ينسى الطبيب الطريق وسط حقول الألغام و لم ينسى أنات الجرحى يسمعها في الظلام و هو لا يستطيع أن يفعل لهم شيئا. 
و لم ينسى أخاه الذي كان يسأله عن معنى الحياة و الموت..لم يستطع أن يجيبه، فلم يعد هناك معنى لأي إجابة حينها..افترقا لعل أحدهم يحظي بفرصة النجاة..لكن أخاه ذهب إلى قاعدة بوتوكاري، و لم يوقفه أخوه  حينها..فلم يكن أحدهما يعلم أين طريق النجاة في هذا الموقف الحرج..و مات أخوه، و عاش هو..لا يزال السؤال يلح على ذهن الدكتور بيلاف كل يوم: هل فعل كل ما بوسعه حقا؟ هل كان هناك ثمة تصرف آخر يستطيع أن يفعله؟ كان شعورا صعبا حين فر إلى توزلا، شعور من لا يملك أملا لكنه يحاول و لا يستسلم..للحظات بكى هذا الطبيب الجراح القوي..و كشف لنا عن قلب محطم لسنوات. تغيرت نبرة صوته و كأنها تحمل ألام الألاف ممن قتلوا و كأنه يتحمل وحده مسؤلية و ذنب لا يد له فيه..و حين وصل لخط الأمان ، لم يعد يشعر بالخوف.. ربما صار شعورا باللاخوف و اللا أمان أيضا. فماذا سيحدث له أكثر مما شاهده من أهوال. لم يعد يستسلم للشعور بالفزع.. لكنه أيضا لم يشعر بالسعادة حين وصل و نجا بحياته مع آخرين..و أي سعادة تلك و هناك الألف قتلوا و فقدوا و منهم أخوه الأكبر..  يقول إنه لا يدعي البطولة المطلقة..لكنه كان صامدا حقا و بقوة لسنوات.. 

شارك في مسيرات السلام و واصل زياراته لمقبرة بوتوكاري حيث دفن ضحايا مجزرة سربرينتشيا..و هذا العام في 13 يوليه 2018، سيقلي كلمة في لندن في ذكرى المجزرة.

تعريف بالطبيب البطل:
ولد د/ بيلاف في 1965. بدأ دراسته الطبية في سراييفو و بعد تخرجه قدم له مشرفه عملا طبيا في سراييفو كجراح..لكنه قرر أن يعود لبلدته الجميلة حيث الحياة الهادئة في سربرينتشيا على الحدود الصربية البوسنية..ظن أنه لن يحتاج للعمل في سراييفو كجراح..لكن سرعان ما بدأت الحرب و احتاج مضطرا للعمل في سنوات الحرب كطبيب وجراح أثناء خدمته العسكرية. بعد الحرب، صار جراحا ماهرا و مميزا في عمله و لديه العديد من المنشورات العلمية في مجال جراحة الصدر.

بعد حصار لنحو عام، أعلنت سربرينتشيا مدينة آمنة تحت حماية قوات حفظ السلام الأممية مع بلدة زيبا ZEPA  في عام 1993.  لكنها كانت محاصرة في نفس الوقت. لم يكن قد أكمل د/ بيلاف عامين من التدريب بعد التخرج و عمره 28 عاما..يعمل بلا خبرة كبيرة و بلا معدات و لا أدوية تقريبا (خاصة المضادات الحيوية و مسكنات الألم و أدوية التخدير)..و بلا رفاق مدربين..كان د/ بيلاف بينهم طبيبا و عسكريا في ذات الوقت حيث كان يؤدي أثناء خدمته العسكرية. أخبره القائد ناصر أوريتش أن عمله الطبي مقدم على العسكري لان القائد العسكري إذا مات من المكن أن يحل محله من يليه، لكن الطبيب لا..في هذه الأوقات العصيبة كان يعالج الجرحى من مصابي الخطوط الأمية في الحرب و كان لا بد أن يتوجه ليكون طبيبا بالمستشفى الوحيد مع رفاقه الخمس. في لحظات حرجة، كان عليه أن يختار سريعا فإن شاء هرب و تنصل من المسؤلية و إن شاء بقى و تعرض للخطر مع رفاقه الخمس..خمس أطباء فقط عليهم أن يعالجوا جرحى و مرضى بكافة التخصصات في مدينة مغلقة على نحو 42 -50 ألفا معظمهم مهاجرين..تدريجيا، اعتاد الأطباء الضربات و واصلوا العمل تحت القصف لدرجة أن قذيفة داخل غرفة العلميات لم توقفه عن إتمام الجراحة التي كان يقوم بها فانتظر حتى انقشع التراب التي خلفته القذيفة ليكمل خياطة الشريان في جراحة لمصاب في الذراع و الوجه من أثر قصف سابق. . قام بعمل 3500 جراحة أثناء سنوات وجوده في سربرينتشيا.  


   
و كانت أول المساعدات الطبية من طبيب مقدام (د/ ندرت مويكانوفيتش) Dr Nedret Mujkanovic من توزلا. حيث قام بإحضار المعدات و الأدوات الجراحية اللازمة لأصدقائه الأطباء المحاصرين في سربرينتشيا. قام بتهريبها سيرا لمدة أسبوع متخطيا الألغام و مرمى نيران الجنود الصرب ليدخل سربرينتشيا في أغسطس 1992. و قضى نحو 8 أشهر في سربرينتشيا، قام فيها ب 1300 عملية جراحية. و تم منحه أعلى تكريم من الجيش البوسني لاحقا (الزنبقة الذهبية).


يقول الدكتور بيلاف: "لقد كان علي أن أقنع المصاب بأن يتحمل الألم لأطول وقت ممكن أثناء الجراحة مثل البتر مثلا أو جراحة في البطن..و أنا في قرارة نفسي أعلم أنني شخصيا لا أتحمل هذا الألم." كل هذا كان بسبب عدم وجود أدوية التخدير و التي لم تصل إلا بعد شهور من الحصار و بكميات قليلة. كان الأمر أشبه بعملية تعذيب يضطر لها الطبيب لينقذ المصاب و يقبل بها المصاب لينقذ حياته. كان المستشفى المحاصر بلا أدوية أو مستلزمات أقرب لمكان بدائي من القرون الوسطى أكثر من كونه مكان طبي في القرن العشرين. و تأخرت المواد المخدرة المستخدمة في تخدير المصابين أثناء العمليات الجراحية لكنها وصلت في قافلة لاحقة.

كان عدد المصابين يزداد مع القصف و انفجار الألغام يوما بعد يوم. و عليهم أن يتعاملوا- الأطباء الخمسة الذين بقوا من أصل 45 طبيبا كانوا في البلدة قبل الحرب- مع كل هذه الأعداد و الجراحات بخبرتهم البسيطة و بلا إمكانيات تقريبا! كان المصابين متراصين في الطرقات و الأطباء يعملون دون توقف لأيام بلا راحة. التحق بهم طبيب و تخرج آخر وقتل ثالث -  Dr Nijaz Dzanic- أثناء قصف جوي في صيف 1992..كان عليهم أن يخدموا- الخمسة- نحو  50 ألف مدنيا ممن يعيشون في سربرينتشا محاصرين من 1992 حتى 1995. عليك أن تعمل لأيام متواصلة لا تعرف فيم ليل و لا نهار و ربما تنام لساعات قصيرة لتواصل العمل.

لقد اندهش أطباء بلا حدود من العمل وسط نقص المستلزمات و المعدات في بداية الحرب..و فعلوا ما بوسعهم لإدخال الإمدادات الطبية (و التي تفنن الصرب في عرقلة دخولها حتى مع القوات الأممية عدة مرات). كان هذا بعد شهور من عزل سربرينتشيا..و كانت مساعدتهم محل تقدير كبير. 

المجزرة:
و أخيرا، جاء اليوم الحاسم.. حين بدأ الصرب في دخول سربرينتشيا...الآن، عليك أن تنقل المصابين من المستشفى قبل أن تصل قوات الصرب و التي لم تتوان عن اقتحام  المستشفيات و قتل الجرحى. عمل د/ بيلاف رفقة زملائه الأطباء بالمستشفى متواصلا لا ينام إلا ثلاث ساعات يوميا لمدة 5 أيام من 6 يوليه حتى 11 يوليه..كان القصف كل ساعة تقريبا على منتصف البلدة و مناوشات على أطراف البلدة. رفض أن يعتبر هذه هي النهاية، حاول إرسال رسالة باتصال إذاعي للقوات البوسنية (ليخبرهم بوصول قوات الصرب للبلدة) عن طريق مكتب البريد، فجاءه الرد أن القائد الآن يستريح. ربما كانت القوات الصربية تتحكم في الإشارات حينها. لا شيء لم يفعله الصرب..و رأى أنه لا أمان أو تعويل على القوات الأممية. توجه لقائد من كتيبة القوات الهولندية المسؤولة عن حماية المدنيين في سربرينتشيا طالبا حماية المستشفى و فتح البوابة و إزالة السلك الشائك ليخرج المصابين. رفض القائد طلبه بحجة أنهم غير مهيئين للتعامل مع الجرحى..ثم أجابه القائد أنه لا علاقة له بالصراع بين المسلمين و الصرب..لم يكن هناك وقت ليناقشه فهدده بفتح البوابة بالقوة..و أخيرا، سمح له القائد الأممي بإخراج الجرحى من المستشفى قبيل وصول قوات الصرب..هذا التصرف و الرد الأممي يلخص رد كل مسؤولي الأمم المتحدة حينها.. و حين صرخ أحدهم الصرب دخلوا البلدة، كان على الأطباء الخمس أن يختاروا من يستطيع من المصابين السير و من يجب حمله مع بضعة أدوية و محاليل بسيطة ليبدأ رحلة الخروج من سربرينتشيا. رحلة الطريق الطويل.



أحد جنود هولندا من القوات الأممية قال مدافعا عن نفسه حين أدين بالتورط و التواطوء مع قوات الصرب قبيل مجزرة سربرينتشيا. قال إنه من الصعب تحديد من هم الرجال الطيبون و من هم الأشرار..و بناء على تبريره، فهو لم يكن مخطئا حين تراخى أو تواطأ مع قوات صربيا حين تسلمت بلدة سربرينتشيا التي كانت تحت حماية الأمم المتحدة و ارتكبت المجزرة.. 


**في كتابها (مشفى حرب: قصة حقيقية للجراحة و البقاء) المنشور في 2003..تعرض لنا الطبيبة و الصحفية الأمريكية (شيري فينك) الفائزة بجائزة بوليتزر تجربة أطباء خمس احتجزوا مع نحو 50 ألفا من رجال و نساء و أطفال في أبريل 1992 في سربرينتسيا حتى 1995. و كان عليهم أن يكونوا الملجأ الطبي الوحيد للجرحى دون وجود جراح واحد بينهم في مستشفى صغير معد فقط لخدمة بلدة صغيرة يسكنها أقل من عشرة ألاف فإذا بها فجأة ملجأ لنحو خمسين ألفا و لسنوات.. و بمساعدة من ثلاثة أطباء آخرين أحدهم من أطباء بلا حدود..و الآخر جراح من البوسنة كان عليه أن يعبر الطرق  و حقول الألغام ليصل لهم..استطاعت هذه المجموعة الصغيرة أن تعبر أزمة استمرت لأربع أعوام و نصف..كانت على أشدها حين احتل الصرب سربرينتشيا في يوليه 1995. و كانت أصعب الأوقات المصيرية حين يقرر الطبيب أن هناك أمل من أن  يعالج هذا الجريح و أن عليه أن يترك ذاك الجريح ليموت. 

كان الأمل في ألا يحدث هجوم بسبب وجود القوات الأممية و أحد أطباء منظمة أطباء بلا حدود..كان أملا خادعا لم يصدقه حتى من تعلقوا به..فلا الأمم المتحدة حمتهم و لا الصرب خافوا من سوء صورتهم أمام العالم منذ بدءوا الحرب. اعملوا آلة القتل و كانت مجزرة سربرينتشيا. 

Sunday, February 04, 2018

طارق رمضان.. التدوينة قبل الأخيرة

الواقع أن هذه قد تكون التدوينة قبل الأخيرة التي ساكتبها في سلسلة عن طارق رمضان. فعلى مدى سنوات ربما عقد من الزمان، عرفت عنه و تابعت الكثير من لقاءاته و محاضراته و ما يكتب و أنشطته على موقعه و قرأت بعضا من كتبه.


الرجل الآن صار في موقف لا يحسد عليه و هو قانونيا في موضع "اتهام". و مبلغ علمنا أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

(1) فإن كان بريئا فالحمد لله. كما قالت السيدة عائشة حين ظهرت براءتها من ذاك الاتهام، و لم تحمد إلا الله.
    و بعدها، يجب أن تكون هناك وقفة مع المهللين فرحا باتهام الرجل قبل أن تثبت تهمته أو براءته. و وقفة قانونية ضد (كل) من اتهموه ظلما. و في النهاية، نحتاج لوقفة مع الرجل نفسه، فكان عليه أن  يكون أكثر  حذرا و يبتعد حتى عن الشبهات -إن صدقت بعض الادعاءات-. لقد وضع اتهامه الأخير فرصة للإعلاميين العابثين بأن يطعنوا فيه و يضعوا دينه في موضع اتهام أمام كل هؤلاء المتربصين للأسف. و "غلطة العالم بألف".

(2) و إن لم يكن بريئا- لا قدر الله- ، و ثبت الاتهام بالاغتصاب، و هذا كبيرة لأنه زنا.  أن يكون رجل دين أو مفكر ينشر العلم و لا يعمل به، بل  يقترف المنكرات و الكبائر مرة بعد مرة. حينها، سيبدو أن هناك خلل ما و مشاكل كثيرة. المشكلة الكبرى هي أنه حينها سيواجه ذنوبا مع الله و مع أسرته و مع المجتمع.  ذنب الخداع لمن يتابعونه و يتعلمون منه. فكبر مقتا أن يفعل المسلم نقيض ما يقوله و يعلمه للناس على مدى سنوات. و مشكلة كبرى أنه قد يكون بهذه الهشاشة فيقع في الخطايا و لا يلتفت لعقله و لا يردعه ضميره و لا ينهاه عقله. و هو في نفس الوقت مفكر و متحدث لبق و محاور عنيد!  و حينها ستكون المشكلة فينا نحن أيضا (كيف صدقناه؟). و لهذا حديث آخر.  

رواية قناع بلون السماء تفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية 2024

  رواية قناع بلون السماء تفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية 2024 خندقجي (40 عامًا) من نابلس، واعتُقل في الثاني من نوفمبر 2004، وتعرض عقب...