Salih Brkić
(1948-2023)
كتبت د/ إيمان
الطحاوي
طبيبة و كاتبة،
مهتمة بشؤون البلقان و اللاجئين
* المراسل الصحفي، مؤلف
العديد من الأفلام الوثائقية.
مقدمة:
يرحل البشر،
وربما ننسى كلماتهم، لكن أعمالهم تظل خالدة. يرحل صاحب الجسد النحيل، والعمل
الدؤوب، يرحل الصالح منا، و نحسب أن كان له من اسمه نصيب (صالح بركيتش). رحل، و
لسان حاله يقول: أُفضّل أن يتذكرني الناس بما اجتهدت فيه لآخر عمري؛ لتصل الحقيقة.
وآخر ما أوصاني به أن أواصل نشر الحقيقة قائلا: (أنت شخص استثنائي وصديقة لشعب
البوسنة وكوسوفو، و خاصة نشرك عن الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا. و ما أقدره في
عملك، في المقام الأول هو الحقيقة! حقيقة معاناة شعبنا).
طوال رحلة
الصحفي المخضرم صالح بركيتش، كان مثالا للعمل المتفاني حتى آخر أيامه. كان يهتم
دائما بالأشخاص البسطاء فيبحث عمن لم يصوّره أحد. و كان هذا ما يجمعنا لسنوات. كان
العائق الوحيد في حديثنا هو اللغة، لكننا بطريقة ما تخطيناها جيدا. و لأنه لا يملك
أحد الأقدار، فلم يبق لنا إلا قبره و عمله الصالح الذي قدمه و تلك (الحقيقة) التي
تركها أمانة في أعناقنا. هذا الصحفي يسميه الغرب بالصياد الذي ينقب بحثا عن
الحقيقة بلا كلل، مثلما أجملت قناة إن بي سي في تقريرها عن جهوده الصحفية أثناء
الحرب على البوسنة.
يصفونه في
البوسنة ب "القلم الذي مس جرحا بوسنويا" مثلما قال عن مهنته. يذكّرني
بجراح ماهر يعرف جيدا كيف يعالج مريضا، و لا يُبقي على قيح. فهو لا يُخفي أي
حقيقة، و يجادل زملاءه في دور النشر؛ حتى ينشر القصة الكاملة ".
(صالح بريكتش)
يحكي لنا حكاية اسمه الذي تسمّى به بعد جده. ونرى صورته التي تشبهه تماما. و ها هي
صورة جده البوسنوي المؤرخة في عام 1917، و المخطوطة بالقلم الرصاص تبرهن على قدم
دولته كما يفتخر بها. خطها المصور الملحق بالحرب إميل رانزينهوفر (1864-1930)
للجيش النمساوي المجري. حيث رسم أحداث الحرب، ووجوه الجنود في نهاية الحرب
العالمية الأولى. أعيد عرض اللوحات في مشروع أوروربي في 2016. يقول بريكتش في ذكرى يوم استقلال البوسنة: (إن
دولة البوسنة قديمة تاريخيا و هي أقدم من اتفاق دايتون الذي أنهى الحرب على
البوسنة (1992-1995) باتفاق بين ثلاث دول برعاية أمريكية.
نبذة عن حياته:
ولد بركيتش في عام 1948 في موستار ، ونشأ في
ستولاك. كانت أسرته حريصة على التعليم. فطور شغفه بالكتابة و الصحافة بفضل معلميه
في المدرسة الثانوية. أرسل رقم هوية والدته؛ ليخفي أنه قاصر حين راسل الصحف حينها.
حصل على لقب مهندس تكنولوجيا ثم درس الصحافة في بلجراد. بدأ الكتابة كمراسل
لصحيفة"Oslobodjenje"
و "Sloboda"
في موستار. ثم انتقل في بداية ثمانينيات القرن العشرين إلى توزلا. تدرّج عمله
الاحترافي في الصحافة و الإعلام بدءا من راديو بانوفيتشي، ثم في راديو سراييفو، ثم
في تلفزيون سراييفو وتلفزيون البوسنة والهرسك.
بدأ تغطية أحداث ما بعد تفكك يوغسلافيا في كرواتيا و سلوفانيا ثم في البوسنة حيث
نقل أول الأحداث في بيلينا و زوفورنيك فاتصل بأحد الضباط على أرض الواقع و أبلغ
بتفاصيل الأهوال بسرعة. استمر في عمله مع راديو وتليفزيون البوسنة و الهرسك الفيدرالي
RTV BiHحتى تقاعده. ثم واصل العمل الصحفي بطريقته، حتى آخر أيامه. هو عضو في فريق
الخبراء الدولي التابع لمعهد أبحاث الإبادة الجماعية ، في كندا.
حياة لا تخلو من
خطر:
لأن الصحافة
مهنة البحث عن المتاعب، فقد تلقى تهديدات عبر الهاتف أن هناك رصاصة عليها اسمه،
لكنه لم يأبه. و في بداية الحرب، جابه تهديد أحد القادة العسكريين في جيش
يوغسلافيا، بأنهم مثل الفئران يختبئون؛ ليقتلوا المدنيين العزل.
شيء من التكريم:
حصل بركيتش على
العديد من الجوائز الصحفية: جائزة صحفي العام في 1995، ووسام الاستحقاق للشعب، ووسام
العمل، ووسام جمهورية باكستان الإسلامية، وجائزة الإنجاز مدى الحياة من الجالية
الإسلامية في البوسنة والهرسك في 2019.
بينما يرى أن
أفضل الجوائز حين يجري لقاءا فيعرّفونه بسربرينتسا. حيث أحب بركيتش منطقة
سربرينتسا و وبلديات بودرينيي الأخرى وأهلها و نقل معاناتهم لئلا تذهب طي النسيان.
يقول: أنا واحد من القلائل الذين يعرفون سريبرينيتشا جيدا دون تأليف كتاب.
كان فخورا
بعضويته في لجنة تحكيم جائزة (نينو تشاتيتش Nino Ćatić ) للصحفيين، التي سميت على
اسم هذا الصحفي من سريبرينيتسا الذي أذاع نبأ سقوطها بالراديو، ثم هرب عبر الغابات
ولم يجدوا له رفات حتى اليوم.
من أعماله:
يعد صالح
بركيتش، عميد الصحافة في البوسنة والهرسك الذي اشتهر بتغطيته لحرب 1992-1995. أبقى
بركيتش الجمهور على اطلاع دائم على الأحداث في الخطوط الأمامية. ثم واصل تقاريره
بعد الحرب عن معاناة البوشناق حتى أيامه الأخيرة. كان بركيتش معجبا للغاية
بالصحافة الاستقصائية و الوثائقيات. قدم أكثر من 30 فيلما وثائقيا في حياته
المهنية. ترجم بعضها إلى لغات غير البوسنوية. منها عشرة أفلام مترجمة إلى اللغة
الإنجليزية. نذكر منها: "اثنا عشر عاما من كفاح فاتا أورلوفيتش" و
"وصول فاتا إلى العدالة" و "الأم خديجة" و "نرمين" و
"لقد قتلوا أيضا أطفالا لم يولدوا بعد" و "حورية أفنديتش" و "القلب"
و "بلدي، سريبرينيتشا" و "من سيكون مسؤولا
عن عيون سيد بيكريتش؟" و "مجزرة مدخل توزلا" و "صبي بيد
رجل عجوز" و " مصباح يدوي في المقبرة".
قدم نتاجه الفني
لمراكز مثل مركز بوتوكاري التذكاري وأمهات سريبرينيتسا. و لبى دعوات المراكز في
كافة أنحاء العالم المهتمة بالإبادة الجماعية للبوشناق(مسلمي البوسنة) بالحديث و
عرض الصور و الفيديوهات. شارك في ندوات الترويج للكتب الصادرة عن الإبادة الجماعية
في البوسنة و قدم الراحل أرشيفا لصور للمساجد المهدّمة أثناء العدوان على
البوسنة والهرسك لمن يهتم بالأمر. صّور حوالي 115 مقبرة جماعية. وثّق لحادثة منجم الفحم بالقرب من توزلا، عندما توفى 180 من عمال
المنجم في أغسطس عام 1990. تنقّل في أنحاء العالم في مشاريع خاصة ليتابع أين
استقرت بعض الجاليات البوسنوية في المهجر. انتقل زائرا مع بعثة طبية من توزلا إلى
باكستان التي ضربها زلزال في 2005، و أعدّ تقاريره التليفزيونية و منها فيلم عن
فتاة بعمرالعامين، بُتِرت ساقاها، ثم ساعد في جمع الأموال و توفير منحة تعليمية لمساعدتها.
أجرى مقابلات مع ملوك ورؤساء دول ، وقدّم تقارير من العديد من الدول الأجنبية. و
في السنوات الأخيرة، بدأ أيضا في النشر على قناته على يوتيوب.
من مبادئه
وآرائه:
·
أهمية التوثيق و ذاكرة الحرب:
·
وكان بركيتش يدرك أن الكثيرين لا يقدرون أهمية هذه المشاريع و هذا
التوثيق، و لا يساعدونه. لكنه يقر أنه عليه المثابرة، و عبور الطريق حتى نهايته،
حتى لو بقى فيه وحيدا، فالناس ستقدر يوما قيمة و مغزى ما يفعله. يتألم للإنكار و
يخشى نسيان ما حدث، فيسارع قبل وفاته بالعمل في مشروع و آخر. ليخلق حججا جديدة
تصور بشكل لا يمكن دحضه ماضيا مؤلما.
يتبرع للمعهد البوسنوي في يناير 2022 بفيض من نتاج تصويره و توثيقه المرئيث قبل أن
تحين ساعة الرحيل. يرحل و هو راضٍ عمّا قدم، لكنه يحمّلنا جميعا أمانة استكمال ما
فعل. فمن يحمل الأمانة؟
·
نشر الحقيقة عن الإبادة الجماعية التي ارتكبت في سريبرنيتسا.
·
متابعة أحوال الضحايا بعد الحرب.
·
السعي نحو العدالة.
·
مجابهة إنكار الإبادة الجماعية.
·
الكتابة عن قصص الناس البسطاء.
·
أجمع الزملاء والأصدقاء على تواضعه و تفانيه في عمله.
من أقواله:
·
"الإذاعة هي حبي الأكبر في الصحافة".
·
"يجب على الصحفي أن يمس الجرح بقلمه، وأن يكون حيثما تكون أكثر
الصعوبات".
·
" أكثر ما يؤلمني هو السؤال الذي لا يمكنني الإجابة عليه، هل
ستكون هناك عدالة في البوسنة في أي وقت؟"1997. و يكرر نفس السؤال غير راض على
مستوى العدالة التي حدثت و لا عن بعض مجرمي الحرب الطلقاء حتى عام 2023 رغم
المحاكم و الكفاح منذ أنشئت المحكمة الدولية في بداية الحرب قبل ثلاثين عاما.
·
"إن جدار الصمت لا يزال يخفي مواقع المقابر الجماعية ، والعديد
من مجرمي الحرب لم توجه لهم الاتهامات و لم يدانوا بعد ، وآباء الضحايا والشهود
يموتون ."
· "سريبرينيتشا بقعة
مظلمة، ولن يغسل الجمهور العالمي دماءها عن خديها".
·
. إن الإبادة الجماعية في سريبرينيتشا عار على العالم بأسره وخاصة
الجتمع الدولي، وأن شعب سريبرينيتشا ينتظر نهاية الحرب والإبادة الجماعية منذ 25
عاما."
· "لكي نكون واضحين ،
لن يتم العثور على جميع الناس. ومع ذلك ، انتهى الأمر ببعض الجثث في الماء أو
الوديان أو متضخمة في العشب والغابات."
·
"على تكرار مشاهدتي لها، إلا أن مشاهدة فتح المقابر الجماعية هي
أصعب شيء أحمله بداخلي".
·
"سئمت من التقارير الجافة والقصص الفارغة عن التجمعات السياسية." "الحياة و
الأخبار الصحفية تحدث على أرض الواقع، وخارج دائرة
الضوء في الاستوديو، والموائد المستديرة... "
وفاته:
تُوفّي في 12
مايو2023. أُقيم الوداع الأخير و الجنازة لصالح بركيتش أمام المركز التذكاري في
توزلا يوم الأحد 14 مايو 2023. أمّ المصلين مفتي توزلا (د/ وحيد فاضلوفيتش (Dr.
Vahid ef. Fazlović . دُفن في مقبرة (سوليتوفيتشي (Suljetovići في
توزلا.
قال
المفتي فاضلوفيتش: "كان دائما في الناس ، مع الناس ، كان يحب الناس. لقد أحب
مهمته ، وبعد ذلك سنشهد جميعا ، لقد أحب صليحة شعبنا في الوطن وفي الشتات على حد
سواء في عصرنا. لقد كان شاهدا ومحاربا من أجل الحقيقة.".
قالت الصحفية
المتقاعدة (ألماسة هادزيتش Almasa Hadzic ) في وداعه:"كانت تلك هي المرة الأولى التي
أراه فيها يبكي. كثيرا ما وثّق استخراج الجثث من المقابر الجماعية. حاول صالح
بركيتش مواساة أب منهار كانت رفات زوجته وطفلاه يخرجون من القبر و الدموع تنهمر
على وجهه. فقال لي ححينها صالح بركيتش :(نحن صحفيون، لكننا لسنا مصنوعين من الخشب)"
"أطل صالح على كل روح من سربرينيتشا. يبدو لي أنه لا توجد أم من سربرنيتشا لم
يتحدث معها. لم تكن هناك أم لم يكن يعرف عدد الأطفال وأفراد الأسرة الذين
فقدتهم". "لم يكن بحاجة إلى بوابة أو فيسبوك لمعرفة إلى أين
يتجه. تم استدعاؤه من قبل الناس لأنهم وثقوا به. لسوء الحظ، جزء منا يغادر مع
صالح، هذه الصحافة الجيدة تغادر عندما كان الصحفيون ووسائل الإعلام موضع ثقة".
قال رئيس جمعية المعارف التقليدية (شاركو
فويوفيتش Žarko (Vujović:
"إنه لم يكن صحفيا فحسب ، بل كان أيضا إنسانيا ومرادفا لرجل بوسني وهرسك جيد.
في مهنة الصحافة ،
سيكون من الصعب تعويض هذه الخسارة".
قال
(دينو دورميك( Dino Durmić ، رئيس مركز FTV في
توزلا: "لا يمكن مقارنة ألمنا وحزننا بألم أسرته. لكن غرف الأخبار ، منزل
ثانٍ للصحفيين، فنظرنا إليه كفرد من عائلتنا. لم يتصرف كرئيس لكنه اكتسب احترامنا
كإنسان. صالح بركيتش صحفي عظيم، رجل
أكبر".
قضى المصور (أنس
موراتوفيتش (Enes Muratović جزءًا كبيرًا من حياته العملية معه: "سأتذكره
كرجل عظيم ، وصديق ، وصديق ، كان دائمًا على استعداد للمساعدة ، ليس أنا فقط ولكن
أي شخص آخر. لطالما استندت قصصه إلى حقيقة أن تركيزه كان على رجل ، رجل صغير مضطهد
سواء من قبل النظام او بعض الناس وكل قصصه كانت مبنية على تلك الانسانية ". "من
خلال الإبلاغ عن الأحداث التاريخية ، أصبح هو نفسه جزءًا من التاريخ.
قال (ألكسندر
ماركوفيتش Aleksandar Marković) ، رئيس التحرير التليفزيون الفيدرالي:" كنت مفتونا بذكائه. لقد
علمني كيف أفهم سريبرينيتشا ، وعلمني كيف أشعر وأحب سريبرينيتشا ، لكنني لم أسمع
منه كلمة سيئة واحدة ، لم أسمع قط أنه شتم أحدا، أواتهم شخصا ما. كان يقوم بعمله
فقط ويوثق ما حدث للأسف في هذه المنطقة."
يتذكر المصور
السينمائي (سمير نيمارليا Samir
Neimarlija):"منذ أن فقدت والدي
في وقت مبكر، كان صالح بمثابة الأب الثاني بالنسبة لي. بدأت العمل معه في عام 1995
ومررنا بالكثير"
و قد رثاه عبر وسائل التواصل
الاجتماعي الكثير ممن عمل معهم و تأثروا به.
No comments:
Post a Comment